لم تكن الشام يومًا قاصرًا تحتاج إلى ولاية، ولم تقف في كل تاريخها يتيمة على أبواب الجوامع والكنائس ومفارق الطرقات تستدر عطفًا، لكن والحال ما آلت إليه بعد ست سنوات من عمر الثورة، ومن عمر الاستهتار بدم أبنائها، ينبري السؤال عمن يريد إعدام سورية، دولة وشعبًا وتراثًا.
مع ابتسامات متبادلة وكلمات مُستنسخة، اجتمع القادة العرب على شاطئ بحرنا العربي الميت، في قمتهم الثامنة والعشرين، ولا شك في أن عناوين كبيرة على جدول أعمالهم، تستلزم مئات المستشارين والتقنيين والمفكرين والباحثين، وتحتاج إلى الاستنفار والجرأة والوضوح، بل تحتاج إلى أن يذكرهم اسم البحر الذي بجوارهم بأن الموت غزا الجسد، والوهن أصاب المفاصل.
على مرمى حجر كانت فلسطين خلال عقود طويلة، تستصرخ العرب، قادة وشعوبًا؛ كي يسعفوها بقليل من الهواء، لتتنفس شيئًا من الحرية ومن حقها في الحياة، فأسعفوها بالبيانات، وبمزيد من الحصار والموت وضيق المنافي وزيادة السجون.
وعلى مرمى حجر آخر، تئن سورية منذ سنوات، تحت جنازير الدبابات ولهيب المدافع وحمم طائرات النظام وحلفائه، وقد اجتمع على التنكيل بأهلها، كلّ منحرفي الأرض، دولًا وتنظيمات ومرتزقة، وحاملات طائرات وتجار حروب، ومسوّقي الأعضاء البشرية في السوق السوداء، وبقي “سادة القرار العربي” في حلكة ليلهم، يتلصصون على أجساد السوريين التائهة في عرض البحار، تطربهم تأوّهات الأطفال في جنبات المخيمات، وتسحرهم دموع الأمهات على أجساد يطمرها التراب وبقايا البيوت بلا كفن.
منذ سنوات استقلال هذه الدول وتشكلها في القرن الماضي، حلم المواطن أن يمتلك فيها حق المواطنة، وحق البقاء كائنًا آدميًا مصان الكرامة ومحاطًا بالعدالة، فإذ بقادة الأمة يغمرونه بأطنان الصور والشعارات والوعود، وينتصرون على قوت يومه وحلم أطفاله، بمزيد من القهر والحصار والتهميش والتجهيل والدفع به نحو المجهول.
نهضت ثورات الربيع العربي تتلمس ضوء فجر جديد، وتعبّر عن ألم مكبوت تراكم في الصدور لأعوام وأعوام، وتدعو إلى خروج الأمة وأجيالها من الأفق المسدود، فاحتال عليها ما بقي من “زعماء”، وأقاموا عليها “الحدود”، ليعقد القادة مؤتمرهم بزهو انتصاراتهم على الحاضر والمستقبل، ودفن الأمل في بواطن بحر لا حياة فيه.
استبسلت إيران؛ لأجل مشروعها التخريبي في كل المفارق والدروب، واستقدمت إلى سورية كل أصناف القتلة، فسطوا على الإرث العربي في عقر جامعهم الأموي وأسواقه الشعبية، وأبواب دمشق السبعة، وأبواب سورية التي لا تحصى، واستباحوا البيوت والعادات والقيم، وأعلنوا سقوط عاصمة جديدة، تحت نير استعمارهم ورايات مرشدهم، وغاب العرب قادة وشعوبًا عن المشهد، وتُرك السوريون وحدهم يحاولون -بلحمهم الحي- التصدي لكل ذاك الخراب.
أعلن الروس مشروعهم ومصالحهم في الشرق الأوسط، ودخلوا سورية بكل ثقلهم، واتهمتهم كل المنظمات المعنية، بما فيهم منظمة العفو الدولية بارتكاب جرائم حرب، وبقي قادة العرب يتملقون فلاديمير بوتين، ويستمرئون نظراته الاستعلائية لهم، وهو يمرر مشروع إيران فوق جثث أبناء جلدتهم.
تتفكك الدولة السورية أمام أعينهم، ويحاول السوريون بأقصى طاقاتهم خياطة ورتق ما استطاعوا من جراحها، كي تصمد لأبعد مدى ممكن، علّ بعض الأوضاع تتغير، فيُصر قادة العرب على خلق أوضاع أُخرى أكثر ملاءمة لنمو أمراض أكثر فتكًا وأشد انتشارًا.
عندما ابتكر العالم حربًا على الإرهاب، صدق العرب لعبة النيران تلك على أجساد المدنيين، فأعدوا عدّتهم ونزلوا إلى الملعب مشاركين ومصفقين، بلا أي شرط أو فهم لنظام اللعبة، كونهم وجدوا فيه الحل الأنجع لشعوبهم، ولمواليدهم المقبلة، بحيث يصبح كلّ جنين مقبل يطلب العدالة، في مرمى الطائرات والأحلاف كفرخٍ إرهابي، وأتاحوا للأسد باب النجاة الواسع بين ركام المجازر، فلا كيمياوي حرق الأجساد يومًا، ولا صور قيصر تفضح السجون.
من الصعب إيجاد أي تسويغ لما آلت إليه أحوال دول الجامعة العربية، من ترهل إداري واقتصادي وعلمي وخدمي وسياسي، سوى أنها لم تجد حتى اللحظة رجل دولة، يتمتع بالبصيرة ونفاذ الرؤية وإرادة البناء، لتسخير الطاقات المتاحة إن كان بشريًا أو ماديًا، للخروج بمجتمعه من تلك الدوامة؛ وقد أثبت الربيع العربي، أننا نعيش في ظل سلطات تمتلك كل وسائل التدمير، ولا تمتلك أداة واحدة للبناء، وهي أقرب إلى سلطات احتلال منها إلى سلطات وطنية.
في البحر الميت قمة عربية، وفي البحر المتوسط ترسو أساطيل مختلفة لدول بعيدة، وعلى باب المندب تُعربد إيران لتثقل عبور قناة السويس التي تغنى بها العرب طويلًا، وبأزقة العواصم العربية ملايين الجوعى، وفي دمشق أحزاب ورايات لكنتها غير سورية.
في القمة من يتلو بيان الميلاد أمام العرب، يخبرهم فيه أن من أشحتم الوجه عنها هي سورية، بلاد أبجدية أوغاريت، أول أبجدية مكتملة منذ نحو 1500 سنة قبل الميلاد، ونظم فيها الإنسان أقدم أغنية، قبل أن تكتبوا خطاباتكم التبجيلية ومشاعركم لأجل حسن الضيافة.
من يقول في القمة هنا سورية، حيث بدأ الإنسان يُنتج قوت يومه، ولبسه، وأدوات عمله وحمايته، والرُّقم الذي كتب عليه أساطيره وأحاسيسه، بل أسس من خلالها المكتبات، وبداية القانون. هنا سورية حيث تعلم أهلها أن يرحموا عزيز قوم ذل، ولذا؛ لن يذلّهم أحد على أبواب البقاء، فوجه الله أرحب.
تعليق واحد