مقالات الرأي

أمي وهتلر والهاغانا

هدير الهيلوكبتر، أو “جعيرها”، وهو يخلخل الفضاء، كان يُقلق راحة أمي، ويفتك بما تبقّى لديها من ذاكرة، وعندما تدوِي أصوات القصف على المناطق القريبة من مسكننا، في داريا والقدم، تعدل في جِلستها، وتصرخ بنا: “هذه طائرات هتلر تقصف على مصفاة النفط”، وتطلب منا، كي نصدِقها، الصعود إلى سطح البيت لنرى لهب الحرائق يعلو من خزانات نفط حيفا.

في الثمانين ونيِف داهمها الزهايمر، وهي التي كانت متميزة بذهن متّقد، وذاكرة من ألماس. وفي زمن انطلاق الثورة السورية لم تعد بوعيها ولا بقدراتها المعهودة، وكذلك ذاكرتها المختزنة بترتيب لا يخطئ. زمانها ومكانها، وما تخللها من تفاصيل. عاشت زمن الحروب، وتابعت مجرياتها (1948، 1956، 1967، 1973، 1982)، وبقية الحروب الفرعية في لبنان والأردن. عندما انطلقت ثورة الحرية في سورية، اختلطت عندها الأحداث وزمانها ومكانها وقواها. وبصعوبة بالغة استطعت أن أقنعها أن هتلر قد انتحر، وحربه ضد الإنكليز قد انتهت. وبعد صمت بين تحليق وتحليق للطائرات، تعود لتسأل، تاركة هتلر ومصيره، إن كانت هذه الطائرات “للهاغانا”، وتشتمهم (أولاد الكلب صار عندهم طائرات)!

أزيز رشقات الرصاص، من عيارات مختلفة، كان يُقلقها أكثر؛ فهي على الرغم من الزهايمر، عندها بقية باقية من خبرة، فتربط بين الرشقات وبين اقتراب “الهاغانا”، واحتلالهم لمناطق قريبة من حيّنا. وتدعم رأيها بمطالبتنا بالإصغاء لصوت جنازير الدبابات، ولم تكن تعرف أن الدبابات تمر من الشارع العام قبالة بيوتنا متجهة إلى مدينة داريا. خبرتها -هذه- غاب عنها مكان الحدث وطبيعته. ما توارد إلى ذهنها عمره ثلاثة وستون عامًا، زمن النكبة في فلسطين، والهاغانا كانت القوة المحاربة ضد الفلسطينيين آنذاك.

كانت أكثر المشكلات تعقيدًا التي تواجهنا معها هي إقناعها أن ما يجري لا تقوم به عصابات “الهاغانا”، فنحن لسنا في فلسطين، فتتهمنا بالجهل وعدم الدراية بالأمور، إضافة إلى أنها لم تستوعب أن ثورة في سورية قد انطلقت من درعا، وأن النظام يقتل المتظاهرين، قصفًا بكل أنواع الأسلحة، وحتى الهيلوكوبتر في حينه. وبعد شرح هادئ وتبسيط للمشهد، قبِلت أن ثورة في درعا قد بدأت، لكنها وهي تحيي أهل درعا، تقول: لو أن كل البلاد العربية تهب ضد اليهود مثل أهل درعا، سنهزمهم، غير قابلة بالحقيقة أن الثورة في سورية ضد نظام الأسد، وتظن أننا نخدعها ولا نقول الحقيقة، فهي تتذكر أن الأسد مات، وغاب عنها وجود الوارث. ولما ظهر مرة، يُلقي كلمة في مسيرة مؤيدة له في ساحة الأمويين من دمشق، رفضت أن تقتنع بأن الذي يظهر أمامها على الشاشة صار رئيس سورية بعد موت أبيه.

في إصغائها للحديث الذي يدور أمامها، كانت تسترق السمع وتلتقط عبارة فيها خبر، أو إشارة إلى حدث عنيف ودموي، لتقتحم ميدان الكلام، لكنها تذهب بتعليقاتها مذهبًا آخر لا يخلو من وجع وتهكم وسخرية، تختمه بانفجار سيل من الدموع. وتتمتم بالأدعية حين ترى تساقط الشهداء في التظاهرات، وتتلفت في كل زوايا المنزل وما يتاح لها رؤيته من فوق سريرها، وتسأل عن الغائب من أبنائها، وتصرح: الحقوا أخوكم استشهد.

نظراتها وهي تنصت لصوت القصف والرصاص، كانت تعلّقها هناك، حيث خزانتها التي تُخبّئ فيها، من بين ما تخبئ بالعادة النساء الطاعنات في السن، أوراق دائرة الطابو لملكية أراضي جدي في فلسطين، وكم كان يحلو لها الاطلاع عليها في أكثر الأيام. لكنها حين سمعت أن سكان الحي بدؤوا بالرحيل تجنبًا للخطر، خاصة بعد مجزرة العيد في داريا 2012، اقتنعت معنا بترك البيوت والحي، لكن في هذيانها كانت ترى أنها سترحل عن فلسطين، وتوصينا ألا ننسى الأوراق وسجادة صلاتها، التي لم تعد تستخدمها لأنها مقعدة، وبنسختها من القرآن، ومعهم كفنها الذي حضرته منذ أكثر من عشرين عامًا.

في اليومين الأخيرين لوجودنا في البيت قبل الرحيل، راحت توصينا أي طريق نسلك، وكل عقلها متوقف عند ذاكرتها في فلسطين وهجمات “الهاغانا”، فترشدنا أن نتجه إلى الجبل، ولا نعبر من الطريق العام، طريق “حيفا الناصرة”، الذي تطل عليه قريتنا “بلد الشيخ”.

احرقوا كل الصحف والمجلات وأوراقكم، خاصة التي فيها كلام عن فلسطين! هكذا قالت لنا بلهجتها، فإن دخل رجال “الهاغانا” والتقطوها سيفجّرون البيت. إنهم لا يرحمون، يكرهوننا ويحقدون علينا. هذه اللفتة منها للأوراق تختلط فيها حالة الخوف أيام الأسد الأب من مداهمات الاستخبارات، فـ “الهاغانا” لم تكن لهم مشكلة مع الورق والمجلات. عمليًا تحول كابوس تفجير البيت إلى واقع، لكن ليس على يد عصابات “الهاغانا”. فبعد اقتحام رجال الفرقة الرابعة، والمخابرات الجوية، الحي “حي المهايني” عند مدخل داريا من طريق دمشق، قتلوا ثلاثة رجال وطفلين، تأخروا عن ترك منازلهم، وقدَمهم إعلام النظام لقناة تلفزيونية روسية، بصفتهم إرهابيين كانوا يُعدّون عبوات ناسفة. وبعد “تعفيش” موجودات المنازل، قامت عصابات الطاغية بتفجير البيوت وتحويل الحي إلى أرض مستوية لا أثر فيها للحياة من شجر أو بشر أو بناء. ولم يكن لسكان الحي أي نشاط مناهض للنظام، سلمية أو مسلحة، إلا ما ندر، إذ شارك عدد من شباب الحي في التظاهرات مع أهالي داريا وكفرسوسة، وإن كانت أغلبيتهم تكره كل ماله علاقة بسلطة القمع والإرهاب.

أما الكفن العزيز على أمي فلم نلفّها به، لم ننتبه لنحمله معنا في رحيلنا هربًا من الموت. لقد رحلت ملفوفة بكفن آخر، وفي منفى جديد، صنعه الطاغية وليس “الهاغانا” التي تجثم كابوسًا في لا وعيها. لكن كفنها المفقود العزيز عليها توارى تحت دمار المنزل، ولم يقم بوظيفته في التوقيت المناسب حين لفظت آخر أنفاسها في أصعب غربة.

مقالات ذات صلة

إغلاق