جنيف 55. الرقم الذي يُوالي صعوده الى جانب اسم المدينة السويسرية، وحده كاف للدلالة على تعثر المسار السياسي في سوريا. لكن في موازاته مساراً أكثر سرعة وفاعلية، بعيداً عن الأضواء، ألا وهو تغيير الديموغرافيا السورية بشكل موات للنظام، وإلى حد ما للمعارضة المسلحة المهيمنة على شمال البلاد.
والتفاوت بين المسارين مثير للاهتمام. الأول بطيء وعلني جداً وتجريدي كثيراً، فيما الثاني تحت الطاولة وتنتج عنه خطوات محددة جداً.
فيما تبحث جنيف في الجدل البيزنطي العقيم عن مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد في المرحلة الانتقالية من عدمه، اتفق النظام وحلفاؤه مع ”هيئة تحرير الشام“ و”أحرار الشام“ على عملية تبادل سكاني واسعة. سيُنقل سكان الفوعة وكفريا في ادلب، إلى مناطق النظام. كتلة شيعية كبيرة ستنتقل الى مناطق النظام. مقابلها، سيُنقل آلاف المقاتلين وعائلاتهم من الزبداني ومضايا ومناطق محيطة بها الى أراضٍ خاضعة لسيطرة فصائل المعارضة في الشمال السوري. والمثير للاهتمام أيضاً، وفقاً لتفاصيل الاتفاق المنشورة في موقع المدن، أن المرحلة الثانية من الاتفاق تتضمن ”إخلاء“ 1500 معتقل من سجون النظام، يُرجح أنهم سينتقلون إلى مناطق المعارضة علاوة على ”اخلاء مقاتلي “هيئة تحرير الشام” من مخيم اليرموك جنوبي دمشق“.
إنها عملية تطهير لمناطق النظام من معارضيه، أي المسلحين وعائلاتهم وأقاربهم والمجتمعات الحاضنة لهم، مقابل نقل لما تبقى من أقليات الشمال اليه. على ماذا تدل هذه العملية؟
إذا كان النظام ينقل معارضيه من حمص ومحيط دمشق إلى الشمال السوري، هل سيُقاتل لاستعادته؟ الأرجح أن ذلك لن يحصل، بل سيُبقيه خزاناً للمعارضة، على أن يُسلم أمر ادارته إلى تركيا إما مباشرة أو بالإنابة والتنسيق مع روسيا. باتت أمامنا مسودة جاهزة للحل في سوريا وفقاً لاتفاقات الهدن والتبادل السكاني الموقعة حتى الآن. بات بإمكاننا الجزم بأن مصيراً مماثلاً ينتظر ما تبقى من سكان الغوطة الشرقية. هؤلاء سيُنقلون الى الشمال، على أن تبقى مناطقهم مدمرة أو مأهولة بموالين للنظام.
عندها ستكون سوريا المفيدة من الساحل الى حلب وحمص ودمشق جنوباً، كاملة بأيدي النظام. لا مجتمع فيها يحتضن متظاهرين أو مسلحين معارضين. ولا حاجة ملحة لدى النظام للقتال من أجل الدفاع عن جيوب الأقليات هنا وهناك. الصورة مكتملة وموالية أو صامتة بشكل ممنهج.
وهذا المسار باتجاه ”الحل“ في سوريا نادراً ما يحتاج الى وسطاء دوليين أو اقليميين، ناهيك عن أن أحداً لا ينسحب من اجتماعاته، ولا همروجات اعلامية فيه. هذا المسار ثابت وصريح وواضح ومحدد في أهدافه الديموغرافية للنظام وشركائه المسلحين، ولا شعارات فارغة فيه.
ومن يقرأ اتفاقات التبادل المفصّلة سيما بنود المعتقلين وتبادل السكان، يُصدم بعموميات النقاش في جنيف 55. المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا ونائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف يعقدان الاجتماع تلو الآخر مع وفود المعارضة والنظام للتوصل الى 4 سلات تُنظم المفاوضات وتُحدد الأولويات. لكن المستوى التجريدي أو العام للبنود لا يشي سوى بسنوات تحتاجها المفاوضات للتوصل الى اتفاق من عدمه.
والحقيقة أن مفاوضات جنيف ستعيش أطول بكثير من ولاية ديمستورا المتوقع انتهاؤها بعد أسابيع قليلة، وقد تنافس بعدد حلقاتها مسلسل وادي الذئاب التركي!.
(*) كاتب لبناني