يذهلنا سنان أنطون بروايته “وحدها شجرة الرمان”، ليس لأنه عبر بصدقية عالية وشفافية كبيرة عما حصل في وطنه العراق، خاصة في فترة انهيار نظام صدام حسين، والغزو الأميركي للعراق، وإنما؛ لأنه برهن على عظمة وقوة ما يمكن أن تقدمه الرواية، بوصفها شهادةً على عصر، وإعادة فهم لما جرى ويجري، ومن ثم؛ إعطاء نبوءة للآتي.
وأعتقد أن أهم ما يميز هذه الرواية “العظيمة” هو تلك الصفحات المدسوسة في متن الرواية، صفحات تحكي عن كوابيس البطل الذي اضطر للعمل في مهنة والده في غسل الجثث، على الرغم من أن طموحه كان أن يدرس الفن والنحت تحديدًا.
لا فرق بين ما يعيشه بطل الرواية من أحداث واقعية وكوابيس. لفتة ٌ ذكية وإبداعية عالية من شاعر مرهف الإحساس وروائي كسنان أنطون، أن يشكك في أن تكون الحياة حياة، فالموت هو السيد، والحياة تعلق في ذيول الموت مريضة باهتة، ذات نبض ضعيف، يمكن أن ينقطع في أي لحظة.
من خلال مهنة الأب، غسل الجثث، ثم مهنة الابن التي ورثها عنه مرغمًا، نتفرج على الحياة الكابوسية في العراق، يقول البطل: “شعرتُ أنني نهرٌ يحاول عبثًا ألا يصب حيث تريد له الخريطة أن يصب، نهري الذي أردت له أن يكون مليئًا بالألوان والحياة، أجبرته الانحناءات على أن يسلم ألوانه لتذوب في النهر الكبير الذي يجرف كل شيء إلى الموت.”
الموت هو بطل الرواية المطلق، وكل الشخوص حوله تفاصيل صغيرة، إن لم نقل تافهة. قصة حب جمعت ريم التي استشهد زوجها، وجواد بطل الرواية الذي استشهد أخوه في الحرب العراقية الإيرانية. تبدأ القصة حين تقاربت ريم وجواد بفضل الشهيدين الميتين، الزوج والأخ، ثم أصيبت ريم بسرطان الثدي؛ لأن الإشعاعات النووية جعلت نسبة المصابين بالسرطان تزداد ازديادًا كبيرًا… حلْم جواد في أن يدرس الفن تحطم في واقع يعيش فيه الموت والتفجيرات والاغتيالات، والجرائم المروعة، وتقطيع الجثث، والصراعات الطائفية بين السنة والشيعة، ومحاولات الانتقام من البعثيين القدماء.
القتل بلغ ذروته بعد دخول الأمريكيين إلى العراق. وسط هذه الحياة الكابوسية المروعة، لا يمكن للحلم بالفن أن يتحقق، فيضطر الفنان أن يتسلم مهنة والده في غسل الموتى، لكنه يقرر أن يكتب اسم كل ميت وسبب وفاته، فأخذ يملأ دفترًا تلو الدفتر، هذا مات برصاصة في الجبين، وآخر بطعنات سكين في الظهر، وذاك جسده مقطع بمنشار كهربائي، وثمة أجساد بلا رؤوس، وثمة رؤوس موضوعة في كيس يحضرها أهلها إلى مغسل الموتى ليغسل الرأس… حتى صارت ذاكرة جواد دفترًا لوجوه الموتى، وحين ينتهي يومه من غسل الموتى، يعود إلى بيته ليرى صورة والده المتوفى قهرًا، وأخاه الشهيد، ويرى أمه حطام امرأة تعيش على ذكرى الأموات. وحين ينام تداهمه الكوابيس، فيرى جثثًا بعضها يغسل بعضًا، أو يرى حبيبته ريم تطلب إليه أن يغسل جثتها.
لا فرق بين حياة جواد وكوابيسه؛ حتى حين دبت الحيوية في جسده وانجذب إلى شابة جميلة أحبته ولم يستطع أن يحبها، قال: “كان جسدي كله، باستثناء قلبي، مليئًا بها وطربًا بها كأنها ربيعه، أما قلبي فكان ينبض بالموت وبـالـ “لا شيء”، قلبي ثقب فحسب، يمكن المرور عبره لكن يستحيل البقاء فيه.
أشار سنان أنطون إلى حقيقة بالغة الأهمية في روايته، وهي أن التاريخ صراع تماثيل ونصب، وبأن الذين يسقطون التماثيل إنما يفعلون ذلك؛ لأنهم يريدون إعادة كتابة التاريخ من جديد. وأعتقد أنه كان سيفرح كثيرًا لتكسير صنم صدام حسين الكبير، في ساحة الفردوس؛ لأنه يكره صدام المستبد والسفاح، لكنه شعر أن الفرحة سُرقت منه؛ لأن الذين أسقطوا تمثال صدام، هم أنفسهم من دججوه بالسلاح في الحرب العراقية- الإيرانية التي أزهقت روح أخيه ومئات الآلاف من الشبان العراقيين، وهم الذين يريدون قطع رأس أبي جعفر المنصور، وإسقاط تمثال المتنبي، التماثيل تخاف أن تنام في الليل؛ كي لا تستيقظ ركامًا.
كيف يمكن أن نطلق على ما نعيشه حياة، حين يكون الموت بهذا السخاء والشهية، كما لو أنه أدمن البشر، أو كأنما هوسًا قد أصابه؟! كيف يمكن أن نتجرأ ونقول: إن ما نعيشه حياة، ونحن نرى الكلاب السائبة تنهش جثث الجنود والقتلى.
كل شيء زائف وقذر، لا كرامة ولا حرية ولا مستقبل في بلد الموت السخي والرخيص، والتفاؤل بولادة دولة علمانية مغلوط وفي غير محله. وإذا كانت حياة الإنسان رخيصة ولا قيمة لها في زمن صدام حسين، فإنها صارت أرخص وأتفه مع دخول الأميركيون إلى العراق، إذ تحول البلد إلى ساحة صراع منفلت وشرس بين أطراف عديدة، تؤمن كل منها أنها على صواب، وتبيح كل أنواع القتل والجرائم في سبيل أهدافها.
لم يأت الأميركيون إلى العراق من أجل سواد عيوننا، لقد أتوا لينهبوا بلدًا عريقًا ثريًا، ويذلوا شعبه ويلهوه بالفتن الطائفية. إن الموت صار أكثر سخاء بوجود الأميركيين في هذه الأوضاع الكابوسية المفرطة في العنف والوحشية، يتبدل الناس، ويجد بعضهم في التدين ملاذًا وإنقاذًا للروح من الجنون أو الانتحار، وبعضهم الآخر يسعى جاهدًا للفرار خارج وطن تحول إلى جحيم، القتل اليومي والتمثيل بالجثث والخطف، واختفاء أشخاص من دون أن يتمكن ذووهم من معرفة مصيرهم؟ ومن اختطفهم؟ وهل هم أحياء أم أموات! والمحظوظ من يسلم ابنه أو والده المقتول سليم الجثة، بكامل أعضائه… لكل درك إنساني درك أدنى منه، حتى يتربع شعب بأكمله في قاع الجحيم.
وفي الصفحات الأخيرة من هذه الرواية الموجعة التي تشبه ملحمة ألم وقهر لشعب عانى من ذل حكم دكتاتور مستبد كصدام حسين، وتفاقمت معاناته بعد الغزو الأميركي للعراق بذريعة تحريره من الدكتاتور، في ظل الانتقال من جحيم إلى جحيم، وتحت هيمنة حاكم مطلق الصلاحية، لا يمكن لأحد مقاضاته أو محاسبته! إنه الموت بكل فنونه الشنيعة من تنكيل وتحقير للجسد الإنساني. يتمنى سنان أنطون في آخر صفحات روايته لو كنا حيوانات. يقول: ليتنا كنا حيوانات، بلا لغة متطورة، ولا هويات وتواريخ، نأكل وننام ونتناسل ولا نفترس حيوانات أخرى، إلا عند الحاجة، وليس للهو. هل من طريقة غير الانتحار لإخراج كل هذا القيح والدم المختنق في أعماقي، أريد أن يطفئني أحدهم ويعيد تشغيلي من جديد، أو يبقيني نائمًا حتى أرتاح، إلى أن ينتهي كل هذا. هل يمكن أن أنام بلا كوابيس.
رواية موجعة ومذهلة وذات قيمة فنية عالية جدًا، لا يخفى الشعرية الجميلة لسنان أنطون الشاعر. ثمة مقاطع أشبه بشعر يجعل القلب يذوب من الوجد، والروح تحلق في فضاءات فسيحة، وعلى الرغم من الكوابيس التي تهيمن على الرواية من أولها إلى آخرها، فإننا حين نغلق الصفحة الأخيرة للكتاب نشعر بشعاع نور حقيقي وقوي، ينبع من قلوبنا، لأن سنان أنطون نجح بذكاء في الإفصاح عن رسالته الحقيقية في هذه الرواية، بأن القيامة الحقيقية تكون بعد الموت، وأن علينا أن نمزق أكفان الذل والموت الحقيقي الذي هو اليأس والإحساس باللاجدوى، وأن نعود إلى اللحمة الحقيقية التي أنشأت الكون وهي المحبة… بملاط المحبة والتسامح وقبول الآخر، يمكن أن نبني الوطن، وليس بالحجر والصلصال. لا يقول سنان هذا الكلام مباشرة، لكن هذا هو الانطباع الأخير الذي يشعر به القارئ، فيتساءل: ماذا بعد كل هذا الجحيم والموت والقتل والخراب؟ ماذا بعد؟ أما من وسيلة لإعادة المكانة لحياة حولناها إلى كوابيس؟
كم يحزنني أن روايته هذه التي كتبها قبل الربيع العربي، تنطبق على بلدان عربية كثيرة صورها سنان أنطون في روايته “العظيمة” (وحدها شجرة الرمان)؛ فهل من أمل؟!
الرواية: وحدها شجرة الرمان -350صفحة.
الكاتب: سنان أنطون.
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.