من جنيف 4، وبهاتة مؤداه، إلى منبج التي تُشكّل اختصارًا للمشهد السوري الكلي، ومثالًا على تزاحم القوى، محلية كانت أم إقليمية أم دولية، مرورًا بأستانا 3، وانتهاء بجنيف 5 الذي لن يكون أفضل من سابقيه، يزداد التشابك وتختلف المصالح، وتتناقض التصريحات، وتتغير حسابات الربح والخسارة لجموع المتدخلين. اختبار صبر هنا، وجس نبض هناك، في لوحة أشبه ما تكون بصراع الكل ضد الكل، كل الأطراف لديها مزيد، والجميع قادر على توجيه صفعات، وإبرام صفقات، ولنفهم هذه اللوحة المُعقّدة، لابد لنا من فهم طبيعة ونيات الدول المتدخلة، وما آلت إليه الأمور أخيرًا.
أولًا – أميركا وثوابتها (غائمة الآليات) في سورية
لم تطرأ تغيرات على الأولويات الأميركية في سورية، ولم تظهر كيفية تعاملها مع هذه الأولويات، إدارة يبدو أنها تُقيّد وتُمارس عليها ضغوط داخلية؛ لتعديل تصريحات رئيسها قبل الانتخابات.
1 – العودة الأميركية إلى المنطقة: “قواتنا ستبقى طويلًا في سورية؛ لضمان الأمن والاستقرار ومساعدة السوريين في تحقيق الانتقال السلمي للسلطة”، هكذا صرح فوتيل، قائد القوات الأميركية الوسطى أمام لجنة الكونغرس، ليس ثمة أوضح من تصريح كهذا، يدل على النية الأميركية بالعودة إلى المنطقة، فمنذ الانكفاء عن المنطقة وقضاياها، وعدم التدخل المباشر لحل المشكلات، بما تتمتع به أميركا من نفوذ في المنطقة، عادت التناقضات الكامنة للظهور على السطح من جديد، وملأت الفراغ قوًى عديدة، من “داعش” إلى الميلشيات الشيعية الإيرانية من العراق، وظاهرة تفريخ الميلشيات التي نشطت أخيرًا، مستفيدة من الترهل الاجتماعي والانقسامات داخل بنى هذه المجتمعات، وحالة الفوضى التي يبدو أنها إذا استمرت على هذا المنوال، لن تكون خلاقة البتة، كل ذلك أدى إلى تعزيز النفوذ وزيادة عدد القوات، بعد أن علمت أميركا أن البقاء في المنطقة فاتورته أقل بكثير من الانسحاب منها، وتجربة العراق 2003، وولادة تنظيم “داعش”، وتهديده المصالح الأميركية في المنطقة، والإرهاب العابر للقارات، خير دليل على ذلك.
2 – إنهاء “داعش” على عجل، وما يعني ذلك من الاعتماد على الخطة القديمة للإدارة السابقة التي أعطت الدور الأساس لـ “قوات سورية الديمقراطية” التي اعتمدها أوباما، بما في ذلك من قصر نظر، إذ لم يرفع الستار بعد عن الخطط التي قدمها البنتاغون للبيت الأبيض عن المعركة المقبلة مع “داعش”، ولم يتبين -حتى الآن- إلا قرع طبول الحرب الأميركية على معقل “داعش” الأخير في الرقة، بعد انحسار التنظيم في أكثر من مكان من شرق الموصل إلى الباب، معتمدة بذلك (كما التسريبات والتلميحات) اعتمادًا أساسًا على “قوات سورية الديمقراطية”، التي ترفض أي دور لغيرها في قيادة المعركة و”تحرير” الرقة. فمؤشرات العجلة الأميركية واضحة من إرسال قوات أميركية إضافية إلى منبج من المارينز، ونشر بطارية مدفع هاوتزر 155 ملم؛ ما يدلّ على مشاركة أميركية أوسع مما مضى، وليست الاستشارة فحسب، أو تقديم دعم لوجستي. على الرغم من معاناتها هناك من المطب الكلاسيكي في الشمال (الحليف التركي والنقيض حزب العمال الكردي)، ومطالبة كل منهما بالقيام بالدور الأساس في المعركة، إلا أنها تُبدي استعجالًا ونية في المضي قدمًا بهذه المعركة.
3 – الحد من النفوذ الإيراني: أميركا دولة عظمى تحكمها نخبة بيروقراطية، تضع المصلحة القومية للبلد في المقدمة، وإذا ما أرادت استهداف دولة ما؛ فإن ذلك يترافق مع حملة إعلامية وسياسية؛ لجعلها قضية رأي عام، هذا ما يُفسّر كثرة تصريحات شخوص الإدارة الجديدة، كان أخرها تصريح نيكي هانلي، سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، بأنه “يجب علينا إخراج إيران وميلشياتها من سورية”، لاشك في أن التفجير الأخير الحاصل في حي الشاغور الدمشقي (ذي الأغلبية الشيعية) الذي أودى بعشرات القتلى والجرحى في 10 آذار/ مارس، كان بمنزلة رسالة إلى طهران، مع عدم اتضاح الفاعل جليًا، على الرغم من تبني جبهة النصرة له، فقد تكون روسيا لتُظهر أنها الطرف الموجود والأقوى والقادر على إثبات نفسه في الأرض السورية وملامسة الهواجس الأميركية وتبديدها، مقابل إبرام صفقة تحقق المصالح الروسية في أماكن أخرى، وحل ملفات عالقة وتنازلات أميركية هناك. وقد يكون النظام نفسه الذي جلب هذه الميلشيات، وأفسح المجال للتدخل الإيراني الواسع، وفتح عمارة المجتمع السوري لتمارس إيران هواياتها باللعب على الطائفية، بحلقته الضيقة الجالسة على عتبة المجتمع الدولي، باحثة عن الشرعية المنزوعة وإعادة الأهلية؛ لترسل رسالة “أنا موجودة”، و “ما زال لدي هامش للتحرك”.
4 – اللاجئون والمنطقة الآمنة؛ إذ إن إنشاء مثل تلك المناطق، باتت مسألة أمن قومي بالدرجة الأولى للأميركيين، وهم بهذا الصدد، لم يأخذوا برأي الأطراف الموجودة، أو انتظار إجاباتهم. وخاصة بعد اهتمام الإدارة الأميركية باستصدار قرارات تحظر الهجرة، فتصبح تلك المناطق بمنزلة ملاذ آمن للاجئين وبقائهم في بلادهم، ووقف موجات الهجرة إلى الغرب، واحتمال تسلل إرهابيين إلى هناك.
على الرغم من أقدمية المطلب بالنسبة إلى الثورة السورية، فما تزال هناك ضبابية تلف الموضوع، لمن ستخضع هذه المناطق؟ من سيشرف على إدارتها؟ قوى محلية أم قوى إقليمية مجاورة؟ أي الأراضي ستشمل؟ هل ستكون بمنزلة نقطة الانطلاق لتوجيه ضربات لنظام الأسد، أم أن هدفها -وهو المرجح- تبريد الصراع وإعطاؤه مسكنات؛ إلى أن تحصل التوافقات الدولية، أو أن تُبرز مزيدًا من الخلافات، تنتهي بفرض وجهة نظر طرف دون أخر؟ ثم علاوة عن ذلك كيفية إقامتها، هل بعمل عسكري يستهدف دفاعات الأسد، أم بموجب -وهو الأرجح- تفاهمات سياسية.
الثابت في الأمر أن المناطق الآمنة كانت مرحلة مطلبية من عمر الثورة، طالب بها جموع الثوار؛ للتخلص من بطش الأسد، لكن بعد كل هذا التعقيد في الملف السوري، وتدخل أطراف عدة، لم تعد المنطقة الآمنة خيارًا جذابًا للسوريين، وخاصة أنهم باتوا يُدركون أن مناطق كهذه في ظل التعقيد القائم، ستُمهّد لتقاسم النفوذ بين الدول المتدخلة، وإطالة أمد الصراع دون أن تتحرك الدول وتنظر في جوهر قضيتهم، وهي تحقيق انتقال سياسي يخلصهم من كابوس الدكتاتورية، وأصبحوا يُدركون البنية الهشة للمجتمع، وإمكانية اندياح تلك المناطق وتطبيعها مع الدول المجاورة، ما يهدد وحدة الأراضي السورية، التي تعد مطلبًا نظريًا وآنيًا لكل الدول الفاعلة والثانوية في القضية السورية.
ثانيًا – روسيا ومراوغتها
بعد معركة حلب، حاول الروس تنظيم الورقة السورية سياسيًا لعرضها في “بازارات” محتملة، مستفيدين من العطالة الدولية آنذاك، ورفعهم شعار “حان حصاد ما زرع”، إذ نظّموا مؤتمر أستانا 1، وحققوا لهم زخمًا إعلاميًا، مستفيدين من الوجود التركي الوحيد، واضطرار الأتراك للاستدارة، وكانت نتيجته بيان ختامي، لم يلتزم به الروس بمخرجاته من ناحية ضغطهم على النظام وإيران، ثم أستانا 2 الذي كان أقل خفوتًا من سابقه في محاولة التفافية واضحة على القرارات الدولية.
ولاستكمال مسلسل المراوغة، تأتي زيارة غاتيلوف، نائب وزير الخارجية الروسي، إلى جنيف 4، واجتماعه مع وفد المعارضة؛ لتعلن بعده الخارجية الروسية، أن المعارضة السورية ممثلة بالهيئة العليا للمفاوضات “تفسد المفاوضات”، وفي الأيام ما بين المؤتمرات، كان الروس يقومون بأفعال تُعاكس تصريحاتهم (تهديد جنرال الروسي “بمسح” حي الوعر واستكمال مسلسل التهجير)، ففشلت روسيا في ترتيب الأمور، لفرض أمر واقع على الأطراف المتبقية؛ فأعلن القيصر الحالم الذي أراد أن يكون واقعيًا أن الأزمة السورية “مُعقّدة ونحاول إنجاز تسوية سياسية”، بدد بهذه الكلمات منصّاته المعارضة المعتقدة أن موسكو لها اليد الطولى والقادرة على حسم الصراع، وقول الكلمة الفصل، خاصة بعد التحركات الأميركية الكبيرة في الشمال السوري، لا تتوقف الوقاحة الروسية عند هذا الحد، بل تتعداه إلى إدارة ملف مفاوضات حي الوعر ووضع التهجير القسري على رأس القائمة، أو العودة باتجاه الأعمال العسكرية في الوقت نفسه الذي تُعلن فيه مؤتمر أستانا 3. المأزق الروسي، ما زال يتعمق أكثر، ولا سيما إنها تغطي جويًا قوات أرضية (حزب الله والميليشيات الإيرانية)، أصبحت غير مقبولة أميركيًا ولا إسرائيليًا، وهذا ما حمله نتنياهو متسلحًا بالموقف الأميركي عند زيارته في 9 مارس/ آذار إلى موسكو؛ محذرًا من أن كل شيء إيراني يتحرك في سورية سيكون هدفًا لنا، في الوقت الذي ظن فيه الكرملين أن هذه الإدارة، ستتعامل معه بوصفه ندًا لحل مشكلات المنطقة.
ثالثًا – تركيا ومحدودية الخيارات
اللاعب الإقليمي الأخر تركيا (عملية درع الفرات) التي تشعر أنها محاصرة يومًا بعد يوم، وخاصة بعد قطع قوات النظام والميليشيات الإيرانية طريقها إلى الرقة، لكي تُعمّق قدمها أكثر في هذه المعمعة، قطع الطريق هذا جاء بدعم روسي بعد عودة تركيا إلى مغازلة أميركا لتجعلها شريكًا لها في الحرب على “داعش”، اكتملت الصفعة بعد التسريبات الأميركية عن أن “قوات سورية الديمقراطية” هي رأس الحربة في هذه المعركة، وحاولت تركيا أن تتعنت، فأطلقت بالون اختبار، واشتبكت مع “قوات سورية الديمقراطية” في منيج، لكنها تفاجأت، وتعمقت خيبة الأمل، بالاستعراض الأميركي العسكري هناك الذي كان بمنزلة رسالة للجميع “نحن هنا.. لقد تغيرت اللعبة”، الخيارات أمام تركيا باتت محدودة، فأميركا سطَحت وبسطت الدور التركي، وروسيا لها معادلاتها وغير قادرة على إعطاء مزيد، وتبحث عن مكاسب هي الأخرى، حتى بات كل من روسيا وتركيا إحداهما تناور على الأخرى بعين، والعين الأخرى على البيت الأبيض.
لا شك في أن تركيا كانت تعدّ ما يجري بمنزلة إعادة رسم مستقبل المنطقة، واضطرت لإعلان انتهاء عملية “درع الفرات” التي تتبناها وتدعم قواتها، ولا شك في أنها تشعر بالضعف، بسبب علاقاتها المتأزمة، وخاصة أوروبيًا، ووضعها الداخلي الذي يسهل اللعب بمكوناته للدخول في صراع ومستنقع، قد يُرهق الجميع. ولكن ثمة ثابت أنه مهما تعالت الأصوات، ومهما تعارضت التكتيكات، تبقى العلاقات الأميركية – التركية علاقات استراتيجية، فكل منهما بحاجة لشرق أوسط أكثر استقرارًا، ولن يُعكّر عمق العلاقات ميليشيا عابرة لها أحلام غير موجودة في قواميس حتى داعميها، وخير دليل على ذلك اجتماع أنطاليا الذي جمع رؤساء الأركان (الأميركي – الروسي – التركي)، وما حمله من تأكيد أميركي على الدور التركي في المنطقة.
رابعًا – إيران والنظام وهوايات الإخراج والتمثيل
هذان الحليفان اللذان وجدا نفسيهما في مسارح تدمر، فانهمكا في صوغ سيناريوهات استدعاء “داعش” تارة، وطلب المغادرة تارة أخرى، عله يُخطئ صاروخ من التحالف الدولي يكون فاتحة خير لتعاون مأمول. إيران التي تنتظر الخيبة، باتت تُسهب وترفع سقفها الأجوف، فأوعزت إلى حركة “النجباء” العراقية لتشكيل فصيل، ربما يكون خلبيًا (لواء تحرير الجولان) لتعزف عبره على وترها القديم في تحرير القدس، الذي شق طريقه عبر قمع ثورة الشعب السوري، ولتُصرّح بتغريدات على لسان وزير خارجيتها، تُذكّر اليهود بأن إيران وقفت معهم تاريخيًا، في رسالة أن وجودنا ليس فيه تهديد لكم، إنما علينا إدماء الشعب السوري فحسب؛ لنتابع مخططاتنا التوسعية التي أنتم في مأمن منها، نعم بكل هذه “الشقلبة” تتسم السياسة الإيرانية حاليًا، فلم تجد أحدًا في الميدان إلا النظام؛ لتُمارس بحقه الابتزاز، كالعلقة التي تطلب مزيدًا من عقود الاستثمار على البحر المتوسط، واتفاقية مناجم الفوسفات، والرغبة بالسيطرة على قطاع الاتصالات.
بكل هذا التعقيد والتناقض والتشابك، تكون القضية المدولة، تمر بمراحل خطِرة وانحرافات مثيرة، فلم يكن التدخل التركي أقل مفاجأة للسوريين من التدخل الروسي، ولم تكن القفزة الأميركية الأخيرة أقل إدهاشًا، علها تكون قفزة في الوقت الملائم، وأن تكون نابعة من فهم عميق للمنطقة وتناقضاتها، وعدم الاقتصار على معالجة الأعراض، دون الانتباه إلى جوهر المشكلة، هكذا أرادها الأسد أن تكون، وليس علينا إلا الانتظار والمراقبة.