مقالات الرأي

في مجادلات العلمانيين والإسلاميين

ثمة سوء فهم فطري، أو مُتعمّد، بين التيارات السياسية والفكرية العربية، اليسارية والقومية والليبرالية والعلمانية والإسلامية، ولا سيما بين هذين الأخيرين، ربما لا يكون ناجمًا من الاختلافات في منطلقات وغايات كل واحد منها، فهذا أمر طبيعي، ويمكن إيجاد مشتركات، أو تقاطعات لحلها، وإنما ناجم من انغلاق المنظومة الفكرية لهذه التيارات، وعدّ كل واحد منها نفسه يمتلك الحقيقة، وتحول أصحابها إلى جماعة مغلقة، في شكل قبيلة، بعد أن باتت الأفكار بمنزلة أيديولوجيا، مطلقة وشاملة ونهائية، أي بمنزلة دين أرضي مثلها مثل الأديان السماوية، أو بوصفها هوية مثل الهويات الأخرى.

المشكلة، وفقًا لهذه الحال، أن العلمانيين، في الأغلب، لا يرون الإسلاميين إلا وفق صورة متخيّلة، عن التأخر العملي، والفوات التاريخي، والعنف والتطرف، من دون أن يلاحظوا أن النظم التي ادعت القومية واليسارية والعلمانية، هي المسؤول عن الفوات التاريخي في البلدان العربية، وعن الاستبداد، مثلما عن تردي أحوالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولا يرون إسلاميين من أمثال عصام العطار وجودت سعيد، في سورية، ومحمد حسن الأمين وهاني فحص في لبنان، وراشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو في تونس مثلًا، ولا يهمهم هؤلاء؛ لأنه يهمهم الأنموذج الذي يخدم تصوراتهم وسياساتهم.

هذا يشمل الإسلاميين من الذين يرون العلمانيين خارجين عن الدين فحسب، ومتغربين وفاقدين للهوية الأصلية (التي شكلها الإسلام في عهده الأول)، في حين أنهم لا يرون، أيضًا، أو لا يريدون أن يروا أن ثمة علمانيين وقوميين ويساريين ناهضوا الاستبداد، ودفعوا ثمن ذلك من حياتهم، طوال العقود السابقة. وفوق ذلك؛ فإن مشكلة هؤلاء أنهم لا يرون أن ثمة تيارات إسلامية، تتحرك باسم الدين، وترتكب الكبائر باسمه، وأنها هي التي تصدّر صورة متطرفة وعنيفة ومتوحشة عن الإسلام، فتضر بصورته مثلما تضر بمجتمعات المسلمين تحديدًا. وهو ما يمكن رؤيته في التيارات الإسلامية المحسوبة على الشيعة من “حزب الله” في لبنان إلى الحوثيين في اليمن، مرورًا بكتائب “أبو الفضل العباس” و”عصائب أهل الحق” العراقية، و”زينبيون” و”فاطميون” و”نجباء” من ميلشيات القتلة المجلوبين إلى سورية، أو تلك المحسوبة على “السنة” من جماعات القاعدة وأخواتها إلى تنظيم الدولة الإسلامية، مثلًا.

لا يوجد حل لهذه الافتراقات أو الاختلافات، وهي -أصلًا- لا تقبل تخليق إجماعات ملفقة، على النحو الذي جربته بعض مؤتمرات “الحوار القومي- الإسلامي”، على أهميتها، ولم تصل إلى شيء، كما دلت التجربة. ولعل الحل الوسط، أو الممكن، والمجرب في التجربة التاريخية، وضمنها تجربة الإصلاحات والحروب الدينية في أوروبا، بدءًا من القرن السادس عشر إلى حين سيادة العلمانية التي لا تعادي الدين، وإنما تحيّده، وتحد من قدرة السلطة على استغلاله، إنما يتمثل في تخليق مشتركات سياسية، وضمنها صوغ عقد اجتماعي جديد، ينزه الأديان، على نحو ما حصل في تونس، في صوغ دستور، يكفل لكل فرد، ولكل تيار، الحرية والخيار في العقيدة والضمير، مع ضمان الحقوق والمساواة للجميع، في دولة مؤسسات وقانون ومواطنين، أحرارًا ومتساوين، تُتداوَل فيها السلطة بالوسائل الديمقراطية.

يتصور كثيرون في العالم العربي أن المسألة تتعلق بالتسامح فحسب، وتاليًا القبول بالتعددية والتنوع، وهذا كله ضروري. بيد أنه ليس كافيًا، لذا؛ وبحسب مارسيل غوشيه، فإن القصة ليست في التسامح، وإنما في عدّ التعددية مبدًا فكريًا، وثمرة تغلغل الروح الديمقراطية في فكرة الإيمان نفسها (الدين في الديمقراطية، 119). وبكلام أخر لإريك هوبزباوم الذي يعيد تأكيد مسؤولية العلمانيين عما حصل في العالم في الحقبة الأخيرة؛ فقد “كان القرن العشرون الوجيز حقبة من الحروب الدينية، مع أن الأكثر فاعلية وتعطشًا للدم بين هذا النوع من الحروب كانت هي العلمانية المعهودة، المتحدّرة من القرن التاسع عشر، مثل الاشتراكية والقومية التي الّهت إما أفكارًا مجردة، أو شخصيات سياسية مجدتها ورفعتها إلى مرتبة الألوهية”. (عصر التطرفات، 962).

المغزى من كل ما تقدم القول إن الصخب العلماني، بتنويعاته، لم يعد مجديًا، وهو لا يحجب مسؤولية أصحابه عن كل ما يحصل في بعض البلدان العربية؛ حيث تحرم السلطات الاستبدادية الشعب من حقوقه، بل وتعمل القتل والتشريد فيه، بوضع المسؤولية على التيارات الإسلامية؛ لسبب بسيط مفاده أن هذه التيارات لم تبرز، ولم تتصدر، ولم تتحول إلى مشكلة، إلا بسبب إخفاقات التيارات الأولى التي تصدرت نصف القرن التالي للحقبة الاستعمارية في العالم العربي.

قصارى القول؛ إن النقد الذاتي العلماني ضرورة للنقد الذاتي عند التيارات الإسلامية، والعكس صحيح أيضًا، وطبعًا هذا لا يلغي مسؤولية بعض الدول عن إنشاء أو فبركة تيارات إسلامية معينة، ولا سيما من النمط السلفي المجاهد، ولا يلغي مسؤولية التيارات الإسلامية المعتدلة والمدنية عن قصورها في رفع الغطاء عن تلك التيارات وعزلها، وتفنيد منطلقاتها، ولا سيما المتعلقة بتكفير المجتمع، والقول بالحاكمية والخلافة والحدود، وغير ذلك من الادعاءات التي تلوح بها جماعات القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية وأخواتهما.

مقالات ذات صلة

إغلاق