أدب وفنون

المسرح سببٌ رئيسٌ لأوجاع النهدين (حكايةُ أربعةِ حقراءٍ في أربعةِ عروضٍ مسرحيّة)

هييييه، يا أنت، نعم أنت.. لماذا تشتمني؟ عجوزٍ مشوه-فحسبُ- أنا، ذاكرته معطوبة.

عندما ماتت أمها منذ شهرين، كانتْ تراقب قطرات المطر وهي تنزلق على زجاج شباكها إلى الأسفل، وتتخيلها حياتها، وهي تنحدر داخل جسدها إلى الأسفل، بينما قذائف الحرب تنعكس على الزجاج ذاته.

بعد وفاة أمها، بين سلال الخضار، في الحانوت الذي استأجرته منهم تحت بيتهم، في أثناء القصف، سوف تحكي لي حكايتها القديمة وتعطيني دفترًا قديمًا، هو نسخة ثانية من مسرحيتها اليتيمة، كتبتها على سبيل الانتقام من أربعة مشاهير في الأدب، يسكنون حاليًا في العاصمة، حكتْ لي خلال هذه الأمسيات، ورغم أنف الحرب، حكايتها القديمة.

منذ ثلاثة عقودٍ -تقريبًا- كانت أجمل بنات مدينتنا الصغيرة، طالبة في المرحلة الثانوية، تعيش مع أمها في بيت فوق هذا الحانوت. آنذاك، ورطتها روحها، وهي تبحث عن الحب، في أن تشارك في فرقة مسرحية للطلاب، بدعم معنوي من اتحاد الشبيبة، في مدينتنا شمالي البلاد. هي وبضعة شبان قدّموا عدة مسرحيات لطلاب المدارس في ذلك الشتاء، قبل أن يتوقفوا عند بداية الامتحانات.

عشرات البروفات وعروض كثيرة لعدة مسرحيات، ودائمًا عند كلّ بروفة، وفي أثناء كلّ عرض، كان أحد أولئك الممثلين الهواة يؤدي -طبعًا- دور العاشق في المسرحية، يضمها بحنان فوق الخشبة، وفي الكواليس يلهو ويتسلى بإزاحة قميصها ليعبث بنهديها.

وفي المسرحية التالية، يصير دور العاشق من نصيب ممثلٍ آخر منهم! لم تنتبه لخدعتهم، كان بينهم اتفاق سرّي ينص على تبادل اللهو بنهديها تباعًا، وكلّ واحدٍ يختار عند دوره المسرحية العالمية التي تساعده في هذا! ويصير المخرج والبطل وهي -كما في كلّ مسرحية- الحبيبة دائمًا على الخشبة، والمغدورة دائمًا في الكواليس. بعد الامتحان غادروا مدينتنا نهائيًا إلى العاصمة؛ إذ درسوا في جامعتها وعاشوا وصنعوا عائلاتهم، وطبعوا كتبهم -مع مرور السنوات- وصاروا من المشاهير في عالم الأدب.

كانتْ -كما همستْ لي بحسرة- نهاية كلّ عرض، تشد بخوف وحزن معطفها على جسدها، وهي ترتجف بنهدين ملوثين باللعاب، أمام تصفيق الجمهور؛ بينما الشاب الذي كان في هذه المسرحية يمثل دور العاشق، وفي الكواليس يعتصر نهديها؛ يلوح بثقة للجمهور! هم كانوا يمثلون الحب بشكلٍ عظيم على الخشبة، عبر أدائهم، وبشكلٍ آخر خلف الكواليس، عبر لعابهم.

كان المسرح خطتهم الذكية لتذوق نهديها، وكان المسرح ذاته الخطة الذكية للخيبة التي سوف تلوك حياتها.

مع كلّ مسرحية جديدة، وممثل آخر منهم، للعاشق الجديد، كانت تشعر أنها قد عثرتْ على الحب، ثمّ تنتبه بعد قليل، في بروفة أو في عرض رسمي، أنها تعثر على نفسها بصدرٍ عارٍ ومحاصر بشهقات حيوانية قاسية خلف الكواليس.

أربعتهم على الخشبة كانوا ملائكة، لها أصوات عميقة تقدس الحب، وفي الكواليس كانوا أنفسهم شياطين تتحشرج على نهديها بشهقات حيوانية حقيرة، ولا يفصل بينهم -ملائكة وشياطين- سوى تلك الستارة الغامقة، وقميصها.

– لولا نهديّ لما صاروا مبدعين.. (بما يشبه اليقين، رددتْ أمامي بوحشة، وهي تدخن بشراهة).

لقد جعلوا من مسرحيات عالمية كمائن وضيعة للوصول إلى نهديها.

لم يرجعوا بعد ذهابهم إلى العاصمة، لم يلتق بعضهم ببعض مجددًا في العاصمة. كتبوا وطبعوا كتبهم خلال ثلاثة عقود، وصاروا من المشاهير، وصار لكل واحد منهم مقهًى خاص به، غير مقهى صديقه القديم، وكأنه لا يعرفه.

في هذا الزمن الطويل تابعتهم بحقد، في التلفاز والراديو، عبر الصحف والمجلات وفي المكتبات. كانت تتنهد، كتبهم لم تكن تشبه شهقاتهم الحقيرة، وهي تعبث بنهديها، في كواليس مسرح مدينتنا الصغيرة شمالي البلاد.

– كلّ الذين مروا على نهديّ صاروا مبدعين، إلا أنا.

 

بقيتْ جانب أمها لتعتني بها وبأمراضها، خلال هذا الزمن الطويل، وتسقي بوحشة كلّ صباح نباتات البيت، وتذهب نادرًا إلى السوق لشراء بعض الحاجيات، وعندما يشردُ ذهنها ويسرح خاطرها على أرصفة السوق، ما إن تشعر بألم غامض في نهديها، تلتفتْ لتشاهد أمامها مسرح المدينة؛ فتهرب بسرعة، وكلما ابتعدتْ إلى الأرصفة، عن مسرح المدينة، الألم الغامض في نهديها يخف رويدًا رويدًا.

ثمّة كابوس لم يفارقها أبدًا، مسرحي بلا ألوان، يخترع نظريات مبهمة بصوت دافئ؛ عندما يعتصر نهديها بقوة تتحول نظرياته المبهمة إلى شهقات حيوانية حقيرة، وأنفاس متسارعة تفوح منها رائحة كريهة، ولعاب يسيل على نهديها.

عاشتْ مع أمها على الراتب التقاعدي للأم، والإيجار الذي أدفعه مقابل الحانوت تحت بيتهم.

الحرب التي لم تصل إلى العاصمة دمرتْ خلال سنتين نصف مدينتنا، حربٌ قاسية جاءتْ كلعنة من السماء.

بعد موت أمها، صارتْ تنزل لتسهر معي في حانوت الخضار، بدتْ وكأنها عجوز على أبواب الخرف، تدهور عقلها ببطء، كما تدهور جسدها ببطء، حكتْ لي وهي تدخن شاحبة الوجه:

– يوجد في بلادٍ بعيدة عازف كمنجة، يعزف كلّ ليلة لأجلي.. موسيقاه تأتي إليّ عبر نافذتي لتلهو بخصلات شعري.. لو أن أحدهم آنذاك في الكواليس، عبث بخصلات شعري.!

شعرتْ أنها سوف تموت قريبًا. رحيل أمها، هذه الحرب، خيبتها القديمة، وحدتها وتقدمها في العمر، القصف اليومي، كلها، أجبرتها على إدمان التدخين والبدء بكتابة مسرحيتها بعقلٍ شبه معطل. مثل أي عجوز يبيع الخضار: أنا لا أفهم المسرح، لكن كنتُ أساعدها وأجلب لها علب التبغ وبعض الحاجيات.

أناس قُتلوا وآخرون هاجروا، صارتْ هذه المدينة بسبب الحرب شبه فارغة، ومن بقي هنا خسر ذاكرته، كثيرًا أو قليلًا.

ذات مساء نزلتْ إلى الحانوت، أعطتني دفترًا وهي تبتسم بمرارة:

– هذه مسرحيتي، كتبتُ نسختين بخطي، نسخة لي ونسخة لك..

عجوزٌ يبيع الخضار، لم يشاهد نهدين في حياته، كيف له أن يفهم المسرح؟! أخذتُ نسختي.

في الليلة ذاتها قصفوا البناء المجاور لنا، أسرعنا -أنا وهي- إلى الأنقاض لننتشل أربع جثث مشوهة الوجوه غارقة في الدماء، تأملتهم بشكلٍ غريب، وهي تشعل سيجارة وتعبُ منها بصمت باردٍ ومخيف. من رأس سيجارتها تصاعدتْ أوهامها الضبابية وخيالاتها الموحشة.

– إنهم هم، نعم.. أولئك المشاهير، أنا متأكدة.. اجلب عربتك الخشبية لننقلهم إلى مسرح المدينة، سوف أتدرب معهم على مسرحيتي، بضع بروفات قبل العرض الرئيس.

بسبب الحرب وبشاعتها، وتراجع مبيعات الخضار، عدوى الجنون انتقلتْ منها إليّ، ساعدتها بصمتْ لننقل الجثث الغريبة على عربتي الخشبية، إلى مسرح المدينة، عبر أنقاض الحارات.

في المسرح المهجور ساعدتها في وضع الجثث فوق الخشبة على الكراسي، أخرجتْ أوراق مسرحيتها، طلبتْ مني أن أجلب لها -كل مساء- علب التبغ وبعض الخبز والماء.

بروفات مسرحية يومية في مساءات الحرب، لمجنونة مع أربع جثث مشوهة، في بقايا مسرح.

أحيانًا، كنت أمر بها وأحيانًا لا، بحسب القصف وشدته وتوقفه، ظلتْ لأيام تقوم ببروفات وهمية بصوت عال مع هذه الجثث فوق الخشبة، هنا حيث عبث بجسدها بعضهم منذ ثلاثة عقود.

أخبرتني بسعادة أن أداءها في البروفات أفضل من أدائهم، معها حق، ظلتْ عمرًا كاملًا، وهي تتدرب على هذا الدور في خيالها.

كانت تشتم الجثث منتشية، أحيانًا، تصفعها أحيانًا، تبكي أمامها، أحيانًا، تصرخ بها وترميها أرضًا. أرادتْ أن تنتقم لنهديها في مسرحيتها اليتيمة رغم أنف الحرب، ساعدها تشوه وجوه الجثث؛ لترسمها في خيالها مثل وجوه أدمتْ قلبها قبل عقود.

وصلتُ بصعوبة إلى ما تبقى من هذا المسرح. قالتْ لي: إن اليوم هو العرض الرسمي الأول للمسرحية، وطلبتْ مني الجلوس، جلستُ أمام الخشبة، كنتُ الجمهور كلّه. لولا الحرب لما خطر في بالي أن أحضر مسرحية، حياتي بخضارها كانت في جهة، والمسرح كان في جهة أخرى.

هذه الحرب، وجارتي المجنونة، وأربع جثث متعفنة انتشلتها منذ أيام، كلها الآن، على الكراسي فوق الخشبة.

بدأتْ مسرحية انتقامها، خلعتْ قميصها لتضرب به الوجوه المشوهة، كانت تصرخ وتبصق عليهم. ضجيجهم على الخشبة أوجع رأسي كثيرًا، يا إلهي.. صاروا يتوسلون إليها! الجثث تتوسل!

في المشهد الأخير، أخذتْ سكينًا حادة لتغرسها في الوجوه المتعفنة بهدوء، وكأنها تعيد رسمها لتصير كما في خيالها، كما شاهدتها منذ زمن طويل، يا إلهي، الجثث كانت تصرخ بألم أكثر فأكثر؟! الصراخ العالي لم يسمح لنا أن ننتبه إلى القذائف التي سقطتْ علينا.

كان لابد من مسرحية يتيمة، وجثث مشوهة، وأنقاض مسرح، وموتها، وتشوه وجهي، لتكتشف أن حقدها على نهديها كان أعظم من حقدها على أولئك المشاهير، في مقاهي العاصمة.

ثمّة قذيفة شوهتْ لها نهديها.

بوجه مشوه ينزف دمًا نهضتُ من بين الأنقاض، كانتْ ما تزال على قيد الحياة، شبه عارية والدم يسيل على نهديها الممزقين، همستْ بتعاسة:

– أرجوك، انشر مسرحيتي ووزعها في مكتبات العاصمة، أولئك المشاهير.. أريد أن أفضحهم، أرجوك..

ماتت، كانت هذه أول مرة في حياتي أشاهد نهدين عاريين، لكن ممزقين، موسيقا كمنجة هبتْ من بعيد، فعبثتْ بخصلات شعرها، قميصها الذي رمته القذائف عاليًا حط على صدرها، ابتعدتُ وأنا أعرج.

هربتُ إلى العاصمة، وفي حارة متواضعة افتتحتُ حانوتًا لبيع الخضار، وجهي المشوه، وذاكرتي المعطوبة جعلتْ الناس يتعاطفون معي، ويشترون من عندي، ليزداد عدد زبائني مع مرور الأيام.

أغلب الزبائن كانوا يلتقطون ما يحتاجونه من خضار في أكياس، أكثر من واحد لفوا حاجياتهم بتلك الأوراق؛ أوراق اقتطعوها على عجلٍ من دفتر قديم مرمي بإهمال هناك، بين الخضار، في زاوية الحانوت.

هييييه، يا أنت، أنت، نعم أنت.. انتهتْ حكايتنا، لكن.. لماذا تشتمني؟

 

الريحانية: 27/3/2017

مقالات ذات صلة

إغلاق