مقالات الرأي

سورية والنخبة المدنية المؤسساتية

نتحدث عن النخبة المدنية، بمعنى النخبة المناقضة للنخبة العسكرية، ومصطلح نخبة -هنا- لا يحمل أي معنى قيمي، إذ إن النخبة -هنا- تعني من يحتل الهرم الأعلى من مؤسسات الدولة والمجتمع.

فالقضاة والمحامون والأطباء وأساتذة الجامعات ورؤساء الدوائر الحكومية والسفراء والمستشارون ورؤساء الأحزاب والنقابات والأثرياء، ومن شابه هؤلاء، هم المقصودون بالنخبة المدنية.

ليس في نيتنا أن نعود إلى تكوّن النخبة الحديثة في بلاد الشام وسورية، فهذا أمر يحتاج إلى بحث طويل، لكن حسبنا القول إن عصر النهضة العربية قد شهد تكوّن نخبة شامية مهمة، ذات أصول مدينية وأرستقراطية فلاحية (الإقطاع)، ولقد ساهمت هذه النخبة في ولادة الدولة السورية بعد الجلاء، واحتلت معظم الوظائف فيها، وكانت الجامعات الأوربية مصدرًا لإنتاج النخب العلمية متعددة الاختصاص قبل أن تصبح جامعة دمشق وحلب مصنع إنتاج أكثر النخب العلمية، دون أن يعني ذلك توقف الذهاب إلى جامعات الغرب، ومن ثم؛ إلى جامعات أوروبا الشرقية، وبخاصة الاتحاد السوفياتي.

مع تزايد حاجة الدول إلى المؤسسات لتنظيم حياة المجتمع والأفراد، ودخول التعليم إلى كل أنحاء البلاد، ازدادت النخبة المؤسساتية حضورًا، وتعددت أصولها الطبقية والمناطقية والاجتماعية.

إن انقلاب 8 آذار/ مارس 1963، ومن ثم؛ انقلاب 23 شباط/ فبراير 1966، وأخيرًا انقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، محطات أساسية في تحولات المؤسسة، وفِي تحول دور النخبة المؤسساتية.

كان استئثار البعث بالسلطة بداية أدلجة النخبة المؤسساتية، فالأمر لا يتعلق بالوزراء ومعاونيهم، بل راح يشمل عددًا كبيرًا من نخبة المؤسسة السورية، لكن المرحلة الممتدة من 63 حتى 66، لم تشهد تغيرًا كبيرًا، إذ ظلت النخبة المؤسساتية في طابعها المديني غير الأيديولوجي هي المهيمنة، ولكن منذ 66 وحتى السبعين، ازدادت أدلجة الكادر المؤسساتي التعليمي والاقتصادي والحقوقي، ثمرةً لهيمنة الحزب الواحد، بعدّه “قائدًا”، مع الاستمرار بالمحافظة على جزء من روح المؤسسة التي بدأت تفقد استقلالها؛ حتى حلت كارثة 1970 التي بدأت المؤسسة تلفظ فيها أنفاسها الأخيرة، ولم يمض عقدان من الزمن على الكارثة؛ حتى صارت جميع المؤسسات تحت وصاية أجهزة الأمن المتنوعة من حيث عملها، ومن حيث نخبها التي فقدت استقلالها تمامًا.

فإذا كانت مرحلة ما قُبيل السبعين مرحلة أدلجة نخبة المؤسسة، وفق معيار الانتماء إلى البعث؛ كمديري التربية والمفتشين ورؤساء الجامعة، ومديري الهيئات المالية والصحية، والقضاة، وجهاز الخارجية… إلخ، فإن ما بعد السبعين شهد تحطيم المؤسسة والنخبة المؤسساتية؛ إذ صار انتقاء النخبة مرتبطًا بالولاء الاستخباراتي، والانتماء الطائفي، والاستزلام للقيادة، وتقاسم الفساد الناتج عن تعقيد حياة المواطن عبر ما سُمّي بالموافقات الأمنية التي شملت كل مجالات الحياة في سورية، من التعيين؛ حتى استئجار قاعة عرس، حسبنا معرفة أن النظام ألغى -شكليًا- 180 موافقة أمنية، وألغى الموافقة الأمنية على 200 صناعة، وأبقى على عشرات الموافقات، وزاد عليها.

لم يتبق إلا العدد القليل جدًا من نخبة مؤسساتية لم يمسسها الفساد، وكما قضت أجهزة الأمن الفاسدة والسادية على المجتمع المدني وأبقت على أشكاله الخارجية، فإنها قضت كذلك على المؤسسة ونخبها وأبقت على الأشكال الخارجية لها.

كانت أكبر كارثة حلت بالمؤسسات، تلك التي حلت بالقضاء والتعليم العالي، فقانون الطوارئ لم يبق للقضاء مكان تُمارس فيه النخبة القضائية سيادتها، وراحت الجامعة تفقد أهم نخبها بفعل عامل الزمن، وجاءها جيش من الجهلة الذين لا علاقة لهم بالعمل الأكاديمي، ومع فساد هاتين المؤسستين قضي على عقل الوطن.

هذه الحال قلما ينتبه إليها العقل الذي يبحث عن خلاص للوطن السوري، فإن الخراب الذي صنعته أجهزة الأمن بالمؤسسة قد ألغى نظام الدولة، بل وفكرة الدولة نفسها.

هذا لا يعني بأن النخبة المؤسساتية السورية غير صالحة لممارسة العمل المؤسساتي، بل هي قادرة على ذلك إذا عادت إلى ماهيتها بعد تحررها من العقل الأمني – التعصبي.

مقالات ذات صلة

إغلاق