لا يستطيع أحدٌ أن يؤرِّخ -تحديدًا- لتلك اللحظة التي قرر فيها شاب سوري ما، أن يُطلق الرصاص باتجاه مهاجميه من قوات النظام، دون أن نلتفت إلى رواية النظام السوري السخيفة التي حمّلت المتظاهرين السلميين السلاح، منذ الأيام الأولى للثورة، وأعدت تمثيليات رديئة في استوديوهاتها؛ كي تُشيطن الثورة، مثلما اعترف بذلك وزير خارجية النظام في مؤتمر صحافي، عرض في ما عدّه وثائق إدانة بالصوت والصورة، وحين ووجه بحقيقة أن ما يعرضه حدث في مكان آخر، شمالي لبنان تحديدًا، قال ساخرًا بسماجة: المقاطع صحيحة، لكن الإخراج سيئ! لكن من المؤكد أن ثمة من فقد أعصابه، وانفعل، وقرر أن يثأر من أولئك القتلة الذين كانوا ينقضون على المتظاهرين، فيقتلون منهم عشرات في كل مرة، ثم يتراكضون أمام وسائل إعلامهم التي لا يمكن تبرئتها من جريمة تخريب سورية بأكملها لاحقًا، ليقولوا إن “عصابات إرهابية” انقضت عليهم، وإن أسلحة لم يروا مثلها من قبلُ ًأُشهِرت في وجوههم، على الرغم من أن فاروق الشرع، نائب رأس النظام، قال في تصريح لصحيفة (الأخبار اللبنانية – كانون الأول/ ديسمبر 2012): “في بداية الأحداث كانت السلطة تتوسل رؤية مسلح واحد أو قناص على أسطح إحدى البنايات”، بل إن رأس النظام نفسه قال في أكثر من مرة: إن المظاهرات استمرت سلمية ستة أشهر على الأقل (لقاء في قناة الميادين – تشرين أول/ أكتوبر 2013)، رافقت تلك شهادات العسكريين الزائفة، متواليةٌ من التلفيقات التي توزِّع الاتهامات يمينًا وشمالًا، وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، وصلت إلى حد ادعاء أحد “محللي النظام الاستراتيجيين” (منتصف آب/ أغسطس 2011) أن بارجة ألمانية كانت ترسو على شواطئ المتوسط؛ لتزود “الإرهابيين” بتفاصيل المؤامرة الكونية، والأمثلة على خيوط تلك المؤامرة الكونية أكثر من أن تحصى، فهي لم تستثن بلدًا لم توجّه إليه أصابع الاتهام، ولم توفر شخصية معارضة، مهما كان حجمها، لم تحمّلها “حقائب” مليئة بملايين الدولارات، ولم تورطها بصفقات أسلحة تعجز بعض الدول عن عقد مثلها.
ولكن لماذا قد يتساءل أحد، الآن تحديدًا، عن ذلك الشخص الذي قرر، كما أسلفنا، أن يضغط على الزناد، ويطلق الرصاصة الأولى، وهل تلقّى -فعلًا- أوامر من “الخارج”، أم أن غضبًا عارمًا اجتاح صدره وهو يرى شقيقًا أو صديقًا أو رفيقًا يهوي أمامه شهيدًا؟ أم أن عقيدة ما تشكلت لدى “حماة” المظاهرات السلمية، بأن لا جدوى من الاستمرار متفرجين؛ ففعل الإبادة سيتغول قريبًا، وسوف لن يبقي ثائرًا واحدًا قادرًا على مواصلة مسيرة الثورة، فكان القرار بالتحول من الدفاع إلى الهجوم قرارًا جماعيًا، لقي استحسانًا لدى كثير من المواطنين وقتئذ، وخاصة بعد أن بدأ النظام وقواته المهترئة يتوجع ويتراجع، ثم عمت الحالة المسلحة، وطغت على كل ما سواها من مظاهر، إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه من صراعات، وتصارع يؤخر ولا يقدم؟
ثم، حقيقة، هل يحق لبعضنا أن يعدّ تسلح الثورة خطأ؟ وما البديل عن ذلك؟
لو لم تتسلح الثورة لقُضي عليها، وبعد أن تسلّحت الثورة قُضي عليها، لا نقصد إنهاءها، فالثورة الفكرة لم تنته، كما تشير معطيات كثيرة، بل يمكن القول إنها تسير في طريقها، مبعثرةً الأوراق كافة، وهي تجهد في هدم كل ما يمكن هدمه من أبنية للفساد والاستبداد، نظريًا وعمليًا، وكنا تحدثنا في مقالة سابقة (جيرون 15 كانون الثاني/ يناير، 2017) أن “الدولة الأسدية” قد انتهت فعليًا، وأن شبه الدولة الماثلة للعيان، ليست سوى قطعان من المرتزقة والميلشيات، قد تأتيهم أوامر إيرانية ليغادروا الساحة، ويتركوا “بشار الأسد” محاطًا بعصابات الفساد التي أنشأها، وهو يتوهم أنها كيان متماسك.
ما يهمنا الآن ليس الدفاع عن تسلّح الثورة، وتحوّلها -شيئًا فشيئًا- إلى حرب تحرير شعبية، بعد أن عُدّ نظام دمشق قوة احتلال، لكن يهمنا أكثر فهم ذلك التفصيل دون أن نسقط من حساباتنا التأثر البالغ بما كان يحدث في ليبيا، وكانت تنقله شاشات التلفزة العالمية عبر الهواء مباشرة، فتنقل تقدم قوات الثوار المسنودة بغطاء جوي وفره لها حلف الناتو الذي شل القدرات الجوية الهزيلة أصلًا لقوات العقيد معمر القذافي الذي تداعى سريعًا، بل يمكن القول إن مشهد القبض عليه بتلك الطريقة، واقتياده أسيرًا ثم قتله، بتلك الطريقة الشنيعة لاحقًا، كل تلك عوامل رجّحت كفة “الخيار العسكري”، وجعلته حلًا أول للتخلص من نظام دمشق، وقد كان الدعم الخارجي “الشفوي” كبيرًا، ولا يختلف كثيرًا عمّا حدث في الحالة الليبية، لكنه ظل شفويًا، ولم يتطور إلى أكثر من ذلك، سنكتشف لاحقًا أن إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، هي من حالت بين ثوار سورية المسلحين ووصول السلاح النوعي إلى أياديهم، وقد كاد نظام دمشق يتهاوى تحت ضربات الثوار المسلحين في صيف عام 2012، مثلما أكدت ذلك شهادات أقرب حلفائه إليه (طهران)، وباعتراف كبار قادتها العسكريين، لكن مشيئة خارجية هي من عطّلت ذلك التقدم في دمشق تحديدًا.
من المؤكد اليوم، أن أسلحة معظم المسلحين الأوائل، “حماة الثورة”، لم تعد في أياديهم، أو أن مزاجها وهدفها اختلفا كليًا عمّا كانا عليه قبل خمس سنوات، يخضع الأمر لميول دول ومؤسسات، لا لأحلام شعب يتطلع إلى الحرية.
قال لي (و.ح) وهو رقيب انشقّ عن قوات النظام مطلع عام 2012، وقاتل في صفوف إحدى كتائب الجيش الحر عامًا كاملًا، ثم انشقّ عن تلك الكتيبة، وفرّ باحثًا عن فرصة حياة: “غيّرتُ اتجاه البندقية التي كنت أحملها، كانت تقاتل؛ من أجل الشعب لا ضده، بعد ذلك، لم تعد تقاتل لأجل الشعب، صارت تقتل باسم الشعب، وهذا ما لم أستطع فعله؛ لذلك، قلت لبندقيتي وداعًا، وهربت”.
ربما كان من أطلق الرصاصة الأولى ما زال حاملًا بندقيته، يقاتل لأجل الشعب، أو يَقتل باسم الشعب، وربّما يكون سقط شهيدًا دون أن يعرف أحد اسمه، ولعلّه ترك بندقيته -هو أيضًا- في زاوية ما، ولوّح لها مبتعدًا، وقال: وداع أيها السلاح.