التسميات غير الشرعية تكون مدخلًا لأحوال سقيمة، ولا يمكن البناء عليها بإيجابية وتفاؤل، وما يُصطلح عليها من تسميات لها مواصفاتها وأبعادها، وأيضًا لها الوسط الذي تأخذ معانيها فيه، وأثر الأوضاع والبيئة والثقافة على معنى أي مصطلح أمر جوهري، يؤدي إلى الاختلاف عليه، وربما تحويله إلى إشكالية أكثر من لغوية، لتنعكس على الواقع بما يؤذيه ويؤخره ويشتته، بل ويبعده حتى عن حال التقبل والتفهم، ويصل الأمر بالتأكيد إلى الصراع بين طرفين، قد يتبنيان شعارًا اصطلاحيًا واحدًا، مع اختلاف التفسير، أو ربما حالًا مستهدفة مع اختلاف الاصطلاح.
خلال الأحداث السورية في السنوات الماضية الست، إضافة إلى ما قبلها، ومنذ الاستقلال، استُخدم مصطلحا السلطة والمعارضة، وكان لهما وجاهتهما خلال فترات قصيرة أواخر الأربعينيات، وفي فترات متقطعة من الخمسينيات، إلا أنه مع وصول البعث خاصة، لم يعد لهما أي معنى يتصل ببنيتهما، فالسلطة التي يفترض أنها مستمدة من الشعب، باتت بيد انقلاب داهمته انقلابات داخلية في نصف قرن، والمعارضة إما كانت شكلًا تجميليًا يسوغ للسلطة زعم الديمقراطية والتعددية، أو خصمًا منافسًا على السلطة وبمفهومات انقلابية بالضرورة؛ لاستحالة زحزحة السلطة ديمقراطيًا تحت حكم نظام استبدادي؛ لذلك، كانت جزءًا من معادلة السلطة بحد ذاتها، لأنها كانت المسوغ أو التهمة التي تستاصل بها السلطة أي شخص أو فئة لا تلمس منها الخضوع التام.
وإن كانت السلطة تمتلك عمليًا ما يسوغ وصفها بالسلطة، كونها تتحكم بالسلطة، فإن المعارضة بقيت مصطلحًا مائعًا؛ لأنها معارضة فحسب، بوصفه تسمية لا رصيد لها، ولا تملك أي مؤسسة عملية قادرة على إحراج السلطة من جهة، ولأن ادعاء حال (المعارضة) كانت عملية سهلة يستطيع ادعاءها من يشاء، حتى أتباع السلطة نفسها.
في الأنظمة الغربية، حيث يمكن الحديث عن سلطة ومعارضة، على الرغم من “المافيات” السياسية وجماعات الضغط السياسي والاقتصادي، فإن هذه المعادلة قائمة على أبعاد راسخة، تتمثل في وجود المعارضة في كل مؤسسات المجتمع والإدارة، إضافة إلى الدور الكبير لحرية الإعلام والصحافة، ووجود بنى حزبية ذات برامج تنموية واضحة، فإن ترحيل هذين المصطلحين باتجاه بيئات بدائية وقمعية وقبلية، يعني تفريغهما من معانيهما، بمعنى آخر، الاستعانة بالمصطلحين ضد الفكرة التي أنشأتهما وبثتهما.
الأصل في فكرة الديمقراطية، وتداول السلطة، البرامج التنموية بوجه رئيس، ومواجهة التحديات الدائمة والطارئة بوجه فرعي، وهذا الأمر غير متاح في أنظمة التوريث والعسكرتاريا، حتى وإن استخدمت شيئًا من الزعم بوجود معارضة، إلا أن هذه المعادلة تتحول من شكل من أشكال تجميل الاستبداد، إلى مستوى أخطر بكثير، ويتمثل في استعادة الاستبداد وعودة السلطة المستبدة بعد ترنحها، وأيضًا بوصفها لعبة سياسية لتمرير مصالح الدول الكبرى والمافيات السياسية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بتدخل جهات كثيرة في أي أزمة، تكثر المنصات والجهات المعارضة، وتتصارع في ما بينها؛ ما يمنح الجهات المتحكمة المسوغات الكافية لإعادة تثبيت الاستبداد.
الأسباب الحقيقية لدعم الاستبداد وشكلية تداول السلطة، تتعلق بأهمية هيمنة الاستبداد المحلي، في معادلات القوى الكبرى، في النظام الاستعماري الحديث (النيوكولونيالي)، والأحدث (المافياوي)، فكل دولة يحكمها نظام استبدادي، معادلة الاستقرار فيه قائمة على الإذعان الكلي والخضوع التام للسلطة التي لا تألو جهدًا في تفخيخ المجتمع باستمرار، لتكون مسمار الأمان الافتراضي، بعيدًا حتى عن مفهوم (منفس طنجرة الضغط). هذا النظام مع جبروته الداخلي، وطاقاته التدميرية والبربرية، يبقى ضعيفًا واهنًا أمام الخارج، ويأخذ شرعيته من هذا الخارج، بمعنى آخر أن نظام الإذعان، ما هو إلا نظام تلقي الإملاءات الخارجية، وإن كان النظام يعمل لإبقائه، فإنما يبقى بقدر حفاظه على مصالح داعميه، وتنفيذ إملاءاتهم؛ ما يعني أن ما يتحكم في عملية السلطة هو مصالح الدول المهيمنة والنافذة فحسب.
أكثر ما يجري تداوله بين الأطراف المتصارعة على السلطة، هي تهمة العمالة، وهي في حقيقتها تهمة غير محددة وغير واضحة؛ فحتى السلطات الديمقراطية عميلة بطريقة ما وبنسبة ما، مفهوم العمالة يتراوح بين استمداد القوة من الخارج بتنفيذ أجندات بعيدة عن مصالح الداخل، وبين السياسات الواقعية التي تحاول قراءة الأوضاع الإقليمية والعالمية؛ من أجل خطوات ممكنة وعملية، لا شك في أن نمط العمالة هذا يصل إلى درجة التحول الوظيفي للسلطة، بين سلطة تتمتع بخيارات وطنية، وتحمل شيئًا من الهم التنموي، وبين سلطة تئد إمكانية النهوض والتمتع بسيادة مستقلة. فثمة دول في الشرق الأوسط، وإن كانت ترتبط بالتزامات تصل حد الإجحاف مع قوى كبرى، إلا أن فيها هامشًا معقولًا للحياة، وثمة دول أخرى مع كل إمكانياتها وقدراتها وثرواتها، يحرم مواطنوها من أي كرامة وجودية، سواء على صعيد المعيشة أو الحرية. وحتى علاقاتها مع المحيط، لا تستند إلى المصالح الاستراتيجية للشعب الذي تحكمه، إنما إلى مصالح القوة الداعمة لها، ولاستمرارها في وظيفتها المدمرة.
في الأزمات الإنسانية الكبرى، وفي ظل حرب إجرامية كبيرة يقوم بها نظام مجرم وبالتعاون مع أنظمة “مافيوية” كبرى، تبيد شعبًا، وتدمر دولة، وتقتل من تقتل، وتهجر الباقي، أي طرح من قبيل المفاوضات بين سلطة، وبين ما يسمى (معارضة) هو تعمية على الصراع الحقيقي فحسب، و المأساة الخطِرة والبربرية، فالمسألة لا تتعلق بخيارات تنموية أو رؤى اجتماعية وفكرية، إنما تتعلق بالضبط بموقف حازم وحاسم وغير قابل للمساومة، وهو ضرورة إزالة النظام بجميع أركانه، بما فيها اللعبة التي مارستها السلطة، سواء بمعارضة وهمية وتافهة، أو معارضة منافسة على السلطة، يسرت لها كتم أي رغبة في التحرر منها.
أبسط ما يقتضيه الحال -في رأيي- في الحال السورية، فهم الأمر على أنه تحرير.. وليس تداول سلطة. وهذا لا يعني بتر الأفق السياسي، مع استحالته راهنًا. لكن المهم -هنا- إعادة إنتاج مفهوم السلطة، وليس تغيير أيديولوجياتها أو عناوينها أو أشخاصها. على كل الأطراف المعارضة أن تكون مدركة أن وجودها يطيل أمد المأساة، ويرفع كلفتها الإنسانية، لا العكس.
3 تعليقات