مقالات الرأي

مؤشرات الحكم الرشيد

يُعدّ الحكم الرشيد أحد توجهات العصر في عالم السياسة والاقتصاد وإدارة الأعمال، وقد اكتسب شرعية متجددة في حقول علم الاجتماع والسياسة مع نضوج ثقافة حقوق الإنسان والمواطن، وبات طموحًا وشاغلًا إنسانيًا على الصعيد العالمي، فتوفرت في هذا المجال اقتراحات متعددة لمعاييره، تقاس نماذج الحكم على سلّم قيمها، وأصبح من الشائع مسارعة أنظمة كثيرة إلى إعلان مقاربة ذلك الأنموذج في بعض ممارساتها. فهو يُبنى على ركائز أساسية: المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة القانون، والفاعلية، والإنصاف.

ومن المؤكد: أولًا، أنّ توفير الركائز السابقة لا تكتمل إلا بمشاركة مؤسسات المجتمع المدني، وفسح المجال أمامها لمراقبة أجهزة الحكم ومؤسساته وتقويمها ومحاسبتها. وثانيًا، أنّ الحكم الرشيد لا يعني تخفيف دور الدولة بل يعني تغيير دورها، خصوصًا في بلداننا، فعندما يسعى منظور الليبرالية المتوحشة إلى إضعاف دور الدولة، بدعوى تقوية السوق وإطلاق آلياته الفاعلة، تتحول الليبرالية إلى عائق أمام الديمقراطية، ليس بسبب ما تفترضه من تطابق تلقائي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية فحسب، وإنما -أكثر- لأنها تنزع إلى تجاهل قيم العدالة والمساواة التي لا يمكن أن تستقيم من دون تدخّل الدولة الممثلة لعموم الشعب وإرادته العامة.

ويبدو أنّ البحث عن مؤشرات الحكم الرشيد مسألة مجازية إلى حد كبير، إذ إنّ الحكم في الدول العربية، بغض النظر عن كونه نظامًا جمهوريًا أو ملكيًا، يفتقر إلى مؤشرات كهذه. فعلى الرغم من أنّ أغلبية الدول العربية لديها دساتير، وتقر بدورية الانتخابات، إلا أنها -من جهة أخرى- لا تسمح بالتداول السلمي للسلطة، وتفتقر إلى وجود مجتمع مدني فاعل، بل تعيق قيام مجتمع كهذا.

وبناء عليه؛ لا بدَّ من الحكم الرشيد، بوصفه مطلبًا أساسيًا في إدارة الدولة، بتعزيز الشراكة بين القطاعات الثلاثة: العام والخاص والمجتمع المدني. والأهم من كل ذلك محاربة الفساد وتنشيط دور المجتمع المدني؛ ليؤدي بدوره الرقابي والمساءلة في حال التقصير أو العبث بالمال العام، ومن ثم؛ الصالح العام.

وبهدف ضبط الأمور لا بدَّ من تعزيز الشفافية والمساءلة وتوفير المعلومات، والأهم ليس استقلال القضاء فحسب، وإنما تحقيق نزاهته أولًا قبل منحه الاستقلالية؛ كي لا يتجبر بقوت ومصائر العباد، ولكي يكون قادرًا على لجم استغلال المسئولين لمناصبهم بهدف تحقيق مآرب شخصية، دون الاهتمام بمصالح المواطنين من حيث إنها من أهم مهماتهم، ولكونها تندرج في جرائم الفساد موضوع الساعة بالنسبة إلى الشباب في العالم العربي؛ لذا، نجده وقد ثار لينادي بتحقيق العدالة والمساواة، وبرفض الدولة المستبدة، ويطالب بدولة الحق والقانون التي تتيح التنمية المتساوية لجميع جهات الوطن، وتوسّع خيارات مواطنيها وتفتح آفاقهم بتوفير مستوى عالٍ من العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.

وفي سياق البحث عن الحكم الرشيد تعيش التجربة السياسية في العالم العربي حالًا غريبة من الاحتقان الذي بات يهدد في كل لحظة بتفجير الأوضاع العربية. ويمكن تفسير هذا الوضع بغياب شامل وكلي لأنموذج الدولة الوطنية الحديثة التي تُبنى على أساس الديمقراطية وسلطة المؤسسات. ويبدو أنّ ثمة عوامل ثلاثة تظل هي المحرك الأساس للانفجار والثورة في العالم العربي: أولها، تآكل صلاحية المشروعات الوطنية للدولة العربية، ذلك؛ إما بفعل الفشل السياسي والفساد الاقتصادي والظلم الاجتماعي، أو لانعدام القدرة على تحقيق التماسك الداخلي. وثانيها، زيادة النزعة الإقصائية والاستئصالية لسلطة الدولة العربية التي تعبّر عن نفسها يوميًا في السلوك القمعي لأجهزتها ومؤسساتها الأمنية، ما يوّلد احتقانًا مجتمعيًا يعزز نزعات التمرد ويدفع ببدائل التفتت الداخلي إلى الواجهة. وثالثها، وجود أدوار وقوى خارجية تسعى إلى استثمار ما سبق من أجل تعزيز حضورها في العالم العربي.

ولا شك في أنّ عوامل التطور والتغيير السريع والثورة التكنولوجية، ومن ثم؛ توفّر الاتصالات السريعة والمعلومات والإعلام بأشكاله كافة، عمل على إحداث التغيير الكبير في حياة الناس خاصة الشباب، وأصبح أكثر علمًا ووعيًا، وله مطالب لا يستطيع أحد أن يوقفه عن المطالبة بها. فضلًا عن خروج النساء لطلب العلم والعمل، وازدياد مستوى مشاركتهن في مؤسسات المجتمع المدني بجميع أشكالها؛ نتيجة لكفاحهن، ولتقلّص تأثير المعوّقات الحضارية والثقافية التي كانت تعيق مساهمتهن في التنمية، وأثر ذلك في النمط الأسري ومستوى وعي أفراده.

ولا شك في أننا في سباق مع الزمن والخيارات باتت أمامنا محدودة، والمطلوب من الجميع السرعة في اتخاذ قرار شجاع ووحيد، وهو خيار الدولة القوية والعادلة والرشيدة، فهي القادرة على حماية مواطنيها والمحافظة على كرامتهم وممارسة حقوقهم وحرياتهم الأساسية في ظل سيادة القانون، بحيث يخضع له الحاكم والمحكوم، على حد سواء، وينعم الجميع بعدالته إذا ما روعيت المناهج السليمة والموضوعية في فرض أحكامه.

وهكذا، لن يستطيع العرب الخروج من تأخرهم الحاضر دون إيجاد نظام سياسي كفيّ، يتلاءم مع متطلبات العصر ومعايير الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، تستطيع فيه جميع مكوّنات المجتمع المشاركة والتفاعل؛ من أجل حلول أفضل لمشكلاته.

مقالات ذات صلة

إغلاق