تكتبُ سميرة الخليل في الأوراق التي سُرّبت من “دوما” المدينة الثائرة، المقصوفَة، المُحاصَرة، ثمّ المُختطَفَةِ من ثورتِهَا أيضًا:
“النظام هو سكينٌ في خاصرة البلد، ولابدّ من نَزعِ السكين من الخاصرة كي لا تموت سوريا”.
وتكتب على صفحتها في الفيسبوك:
“المشايخ هنا -في دوما- أضرَب -أسوأ- من المخابرات الجويّة”.
هل تكفي هذه الجملة التي كتبتها في أوراقها، حول اختطاف سميرة الخليل قسرًا، مع زملائها: رزان زيتونة وزوجها وائل حمادة، والشاعر والمحامي ناظم حمادي، مِن سُلطةِ الأمر الواقع في دوما؛ جيش الإسلام تحديدًا؟!
ربما احتاج الأمرُ تحريضًا من نوعٍ طائفيٍ خاصّ؛ كما كتبَ حكم البابا في صفحته، قُبَيلَ اختطافِ سميرة الخليل ورفاقِهَا:
“نصفُ حربِ النظام ضدّ الثورة اليوم، هي حربُ الجواسيسِ في صفوف الثورة، وطالما تُوجَدُ عَلَوِيَّة تسرح وتمرح في الغوطة تحت اسم: ناشطة، وأخرى تدخل وتخرج سرًا إلى سراقب تحت اسم: الإغاثة، سوف يُقتل لنا مئاتُ الناشطين والمقاتلين والقادة.”
هل كان يقصد البابا سميرة الخليل وَحدَها، أو.. أحدَ رفاقِها من الطائفة ذاتها، أو كان يقصد -أيضًا- إحدى الروائيتين السوريتين المُعارِضَتين للنظام: سمر يزبك، روزا ياسين حسن، اللتين زارتا “سراقب” ورصدتا الثورة السورية في أعماله الروائية، تُرجِمَ بعضُها إلى لغات العالم؛ بينما يكتفي البابا الصغير بترجمةِ حِقدِهِ الشخصيّ والطائفيّ، إلى كتابةٍ تُحرِّض على تغييب وقتلِ ناشطي الثورة!
يُتابِعُ حكم البابا في منشوره الفيسبوكي:
” الدول الغربية لا تُخوِّنُ مُواطِنِيها من اليهود، ولكنها لا تسمح لهم بالانخراط في جيوشها خِشيةَ اختراقهم!!”.
انتهى التضمين، ولم ينتهِ الاختفاء القسريُّ لسميرة الخليل ورفاقها حتى الآن!، كما لم تنتهِ فصولُ اختطافِ الثورة من مهَادِهَا الأولى؛ من ناسها ومُتظاهريها، ومن ناشطيها الأوائل، فمنذ لحظة اختباءِ الناشطة “العلويّة” فدوى سليمان بين أهلِ حمص “السُنّة”، إلى اختطاف سميرة خليل ورفاقها، ثمّة لحظةُ تحوُّلٍ خطِرةٍ حتى على المستوى الأخلاقيّ والدينيّ، من باب تكفيرِ كُلِّ الآخرين؛ لكَونِهم علويين فحسب؛ حتى لو كانوا مع الثورة ومن أبنائها، أو إسماعيليين.. كما حصل لناشطي مدينة “السَلَمِيّة” الهاربين من النظام، حين قتلهم إخوة المنهج في “سرمدا”، شمالي سورية، وهم في طريقهم إلى تركيا؛ أو مسيحيين ودروزًا؛ بل إنهم.. يُشبهون “اليهود” بحسب البابا الطائفيّ حكم البابا، ويجِبُ الحَذَرُ منهم؛ لأنهم ينطوونَ على جاسوسيةٍ مُؤكدةٍ لصالح النظام، حتى لو كانوا هاربينَ مِن قَمعِ النظام ذاتِه؛ أو.. خارجينَ من سجونِهِ ذاتِها، إلى حيث الحرية بين أناس ثورتهم؛ فإذا بهم يعودون إلى سجون أمراء الحرب، ومن المحاكم العسكرية للنظام إلى المحاكم “الشرعية” لأمراء الحرب!
ليست لدى أمراء الحرب، ولا عند شبيحتهم -بالطبع- ثقافةُ الاعتراف بالخطأ، أو.. على الأقلّ ثقافة الاعتذار؛ كأن يُصدِرَ أمراء “دوما” بيانًا مُقتضَبًا بأسلوبهم المُعتَاد؛ يُحِيلُونَ فيه اختطافَ سميرة الخليل ورفاقها إلى عملٍ فَردِيٍ شائِنٍ، يرفضونه لفظًا على الأقلّ!
يبتسم شبيحةُ النظام وحلفاؤهم للتهريفِ الطائفيّ الذي كَتبَهُ البابا؛ بل يتداوَلُهُ أشباهُهُ من أشباهِ السوريين؛ لأنهم.. أقصدُ النظامَ وأمراءَ الحرب معًا –كما لو أنَّ ذاكَ وَقعُ الحَافِرِ على الحَافر– قد استطاعوا تحويلَ الثورةِ من ثورةٍ لكلِّ السوريين، إلى انتفاضةٍ “سِنّيَةٍ” ضد نظامٍ “علويّ” فحسب، بل.. إلى حربٍ أهليّةٍ- أهليّة، بل.. بينَ نظامٍ “شرعيّ! وتنظيمات تكفيرية إرهابية” وحسب!
يا لَسَعَادَة الباباوات الصِغَار بهذه النتيجة؛ بينما يموتُ السوريونُ تحت القصف، وتحت التعذيب، ومن حصار التجويع والتركيع، وفي تغريبتهم البحرية.
تكتب سميرة الخليل من “دُومَاهَا”:
“جلستُ لأعُدَّ لكم عدد المرَّات التي يتناوبها الطيران والقصف.
حتى الآن 12 مرَّة والنهار في مُنتصفه.
وفي مكانٍ ما؛ من الغوطة.. يُحصِي الأحياءُ عَدَدَ الشهداء والجرحى”.
بينما يستمرُّ شبيحةُ أمراءِ الحرب بالتحريضِ الطائفيّ والدينيّ؛ مُشيرين بإصبع الاتهام إلى كلِّ ناشط مدنيّ، وكلِّ ناشط صحافيّ مُستقِل، بعدّه مُندَسًا في الثورة، بل.. وجاسوسًا عليها، مُتغَاضِينَ عن “سُنَّةِ النظام” الذين في صُلبِ نظامِه ومؤسساته؛ كما في صُلب عملياتِ غسيلِ أموال مافياته، بينما لا ينجو من تشهيرِ شبيحةِ أمراء الحربِ أحدٌ.. حتى “الأب باولو”! ولم ينجو منهم أحدٌ في أرضِ خلافةِ “داعش”، أو في إماراتِ أبناءِ وبناتِ عمومتها!
قائمةُ المُختَطَفين قسرًا من النظام.. طويلةٌ جدًا، ومريرةٌ جدًا. وقائمة المُختطَفين قسرًا من “داعش”، وأخواتها في المنهج، طويلة أيضًا، بل أشدُّ مرارةً؛ لأنّ هناك من السوريين من يُحرِّضُ عليها، أو يُسوّغها، أو يسكتُ عنها!
طوال قراءتي لِمَا كتبته سميرة الخليل، وهي في مدينة “دوما” قبل اختفائها القسريّ:
“حين فتحت المطاحن أغلب الناس ركضت؛ لتحمل قليلًا من الطحين لأطفالهم، البعض حالفه الحظّ، وكثيرٌ مات؛ وعلى كيس الطحين دمه”.
طوال قراءتي لِمَا رصدته سميرة خليل من اللحظات الصعبة الدامية؛ كما لفرحٍ صغيرٍ في عُرسٍ دُومَانِيٍّ تحت القصف، ولِمَا تفعله نساء دوما حين يُقاوِمنَ بأشغالهنّ اليدوية الموتَ المُترَبِصَ بهنّ وبأبنائِهِن؛ وهنّ يُشِرنَ لها نحو أثرِ الرصاصاتِ والشظايا في أرواحهنّ قبل أجسادهنّ؛ وممَّا شعرنا به -نحنُ- حين تهجَّر أغلبنا من بيوته ومن بلده سورية:
” أنا طلعت من الوطن لمّا طلعت من بيتي.. لمّا انطلبت للأمن، لمّا رفقاتي صاروا برّات البلد، وما لقيت حدا أقدِر أروح لعنده يومين..”.
أدركتُ كم هو الألم الذي عاناه الكاتب والباحث، ياسين الحاج صالح؛ زوجُ سميرة الخليل؛ وهو يُعِدّ كتابَهَا للنشر.
كلاهُمَا: “السُنّيُّ والعَلَوَيَّة”.. خرجا من سجون النظام؛ فما لبثا؛ حتى التحقا بثورة السوريين على الفور، ومنذ مهادها الأول؛ بل إنّ الثورةَ قد جمعتهما حبًا وزواجًا؛ بينما يتقيّأ البابوات الصغار صديدًا طائفيًا على صفحات تشبيحهم لأمراء الحرب، لا يختلفون في شيءٍ عن شبيحة النظام، بل هُمُ الوجهُ الآخرُ لهم، وقد ابتُلِيّ السوريّونَ بهما معًا، وسيتخلّصون منهما معًا؛ مهما طال الزمان.
استطعتُ -فحسب- أن أغضبَ كغضبِ ياسين الحاج صالح؛ من الذين اختطفوا ناشطي ثورتنا قسرًا، وعلى التوالي، أو.. قتلوهم: ابتداءً بغياث مطر، مرورًا بباسل شحادة؛ بشير العاني، وليسَ انتهاءً.. بناجي الجرف، كأنما باتفاقٍ غيرِ مُعلَنٍ بين النظام وأمراء الحرب؛ لتصفية خميرةِ ثورتنا السورية، واعتقال وتهجير زهورِ ربيعِهَا الأول، ثمَّ ستطول القائمة منذ ست سنوات، من دوما إلى إدلب وحلب، ومن درعا إلى حمص؛ ومن الزبداني ويبرود إلى الرقة ودير الزور، ومن القصير إلى البوكمال؛ ومن حيثُ تكتب سميرة الخليل -أيضًا- عن “المجرم المجهول“، بينما هي تحت القصف الهمجيِّ للنظام؛ هاربةً من ملاحقاته الأمنية إلى المناطق المُحرَّرَة التي انتزعها أمراء الحرب من مُحَرِّرِيها الأوائل، ومن حيث تكتبُ بالضبط عن:
“نزع صفة الإجرام وتجهيل المُجرِم”.
وأضيفُ هاهنا إليها: وتسهيل عَمَلِ المُجرمين والقتلة!