سيكون من الخطأ الفاحش إجراء مقارنة، وإن من باب السخرية، بين ما يصفه إعلام النظام السوري بالديمقراطية التعددية التي تنعم بها سورية في ظل حكم الأسد الذي اتسم نظامه بوحشية أدت، في حصيلة أولية، إلى 500 ألف قتيل، ومليون مصاب، و5 ملايين لاجئ، و7 ملايين مهجّر في الداخل، وتدمير نحو نصف عمران البلاد. وبين ديمقراطية الرئيس التركي، طيب رجب أردوغان الذي خطا خطوات غيَّرت وجه تركيا، وصنع منها- خلال عقد من الزمن- دولة أكثر انفتاحًا وحرية ورفاهية وأمنًا واستقرارًا.
إن أي حديث مفترض، من هذا القبيل، سيكشف وجود تناقض جوهري كبير بين المشهدين. ففي حين تحولت سورية إلى دولة فاشلة، تسيطر على قرارها السيادي نخب اقتصادية سلطوية، وميليشيات طائفية إقليمية، وجيوش أجنبية، استعان بها “الدكتاتور الشاب” للقضاء على معارضيه، وصل متوسط دخل المواطن فيها إلى 600 دولار سنويًا، وفق رئيس جمعية حماية المستهلك السورية، وتقلص إجمالي ناتجها المحلي بمتوسط سنوي بلغ 19 في المئة عام 2015، ثم تابع انكماشه في عام 2016 بنسبة 8 في المئة، بحسب تقارير البنك الدولي؛ تمضي مسيرة الدولة التركية، وازدهارها مضيًّا قويًا في الصعد المختلفة، من خلال تأثير نموها المباشر في الاقتصاد والسياسة الخارجية والحياة الاجتماعية. فقد حقق الاقتصاد التركي نسبة نمو بلغت 2.9 في المئة عام 2016، وبلغ نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي، وفقًا لتعادل القوة الشرائية بالأسعار الجارية، 32 ألفًا و676 ليرة تركية، نحو 10.807 دولارات (هيئة الإحصاءات التركية).
إن الاستدلال على عمق الهوة بين أنقرة ودمشق، لا تدعمه أرقام الاقتصاد وحسب، وإنما -أيضًا- الحكم الرشيد، والممارسة الديمقراطية، ركيزتين أساسيتين لكل نظام ناجح. ففي 28 أيار/ مايو 2013، مثلًا، قاد ناشطون أتراك احتجاجات ضد إزالة أشجار في ميدان تقسيم، وإعادة إنشاء ثكنة عسكرية عثمانية، هُدمت في 1940، تضم مركزًا تجاريًا. تطورت الاحتجاجات إلى أعمال شغب، بعد أن هاجمت قوات الشرطة المحتجين. ثم اتسعت لتشمل الاعتراض على سياسات حكومة رجب طيب أردوغان.
استطاع المحتجون الأتراك في الساحة، وباعتراف الإعلام الحكومي السوري الرسمي التابع لنظام الأسد، خلق سوق وعيادة ومكتبة، واستخدموا النكتة سلاح أكثر فاعلية “ضد بطش السلطات”! وصنع المتظاهرون الشباب الضحك، ووجدوا طرقًا جديدة لتطوير الحرب، وتعلموا طريقة ملفتة للصمود في وجه فظاعة هراوات رجال الشرطة الذين أطلقوا مئات قنابل الغاز المسيل للدموع. ومع ذلك، فقد صمد المتظاهرون!
في الثالث من حزيران/ يونيو 2011، أي: قبل 23 شهرًا، من اعتصام ساحة تقسيم، حدث الشيء نفسه في ساحة العاصي، في مدينة حماة. فقد احتشد عشرات آلاف المتظاهرين، يحملون الورود بأيديهم، مطالبين الأسد وقف سياسة العنف التي يمارسها ضد الذين خرجوا إلى الشوارع مسالمين، ينادون بحرية شعبهم. وبخلاف ما شهدته ساحة تقسيم، لم يتمكن المتظاهرون الشباب من خلق أنموذج خدمي في ساحة حماة الشهيرة، أو أن يستخدموا النكتة، أو أن يبتكروا طريقة للصمود في وجه رجال الأمن؛ فقد عاجلتهم قوات الأسد، وفتحت نيران مدافعها الرشاشة عشوائيًا. وعلى الفور لقي أكثر من 65 متظاهرًا حتفه، وجرح أكثر من مئة، نُقلوا إلى المستشفيات متسربلين بدمائهم.
في السنوات الست الماضية، شاهد العالم صور الفظائع التي ارتكبها الأسد بحق بلاده؛ مدن مدمرة، وأطفال قتلى، وأعمدة دخان تتصاعد بكثافة من بلدات تحترق بسكانها، وصور آلاف ممن قضوا تحت التعذيب في سجون سرية، يدور خلف جدرانها أمر مروع، تخفق له القلوب رعبًا، وفق وصف “منظمة العفو الدولية”.
عندما بدأت سورية، تتحول بقرار من الأسد، إلى مسلخ بشري، أو محرقة، كالتي صنعتها النازية في ألمانيا في أثناء حكم هتلر. كانت تركيا في هذه الأثناء برئاسة أردوغان، قد استكملت دخولها نادي مجموعة العشرين الكبار، باقتصاد قوي، انتقلت فيه من المركز 111 إلى المركز 16 عالميًا. وجهد تنموي، رفع دخل المواطن التركي السنوي من 3570 دولارًا عام 2002، إلى 9130 دولارًا عام 2015. وحققت المعايير السائدة دوليًا في مجال حقوق الإنسان، منتهجة سياسة عدم التسامح تجاه التعذيب، فأغلقت في السنوات العشر الأخيرة 208 سجون، لا تتماشى مع معايير الأمم المتحدة ومجلس أوروبا، وسمحت بإعادة المحاكمات استنادًا إلى قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وألغت محاكم أمن الدولة، والمحاكم ذات السلطات الخاصة، وشرَّعت حق امتلاك المعلومة، ووسعت من حرِّية إقامة التنظيمات السياسية والمجتمعية، وكفلت -كذلك- للأحزاب السياسية حرية ممارسة نشاطها، على نطاق واسع.
لقد تأُسست في العقد الأخير، دولة تركية جديدة، بتقليد سياسي، يقوم على مبدأ “ليحيا الإنسان حتى تحيا الدولة”، دلالة على ارتباط وجود الدولة، لأجل المواطن، وخدمته. فالدولة التي لا تُقدّر الإنسان، وتقصي مواطنيها، وتميّز بينهم، وتنسج حول نفسها سياجًا. إنما هي دولة عاجزة عن تقديم الخدمات للسكان، وضمان حقوقهم، وعن تحقيق النمو والتقدم وتحقيق الاستقرار والرفاهية لشعبها.
ولا يخفي أردوغان، الذي تعرض حكمه لمحاولة انقلاب منتصف تموز/ يوليو 2016، أفشلها الشعب، حين نزل إلى الشوارع ووقف في وجه الدبابات، عزمه على مواصلة العمل؛ من أجل بلوغ هدف تركيا العظمى، في عام .2023 ومن المثير جدًا، أن ينكر الأسد، بطريقة مقصودة، الرصيد الكبير الذي حققته بلاد خصمه في فترة قياسية، وتحولاتها اللافتة في الديمقراطية والاقتصاد. ويتجاهل عمدًا، رصيده الدموي الشخصي، ومجازره المتواصلة، للمحافظة على السلطة بقوة الدبابات والطائرات والمدافع.
وبحسب وقائع التاريخ، لم تعرف سورية الانتخابات الرئاسية، والبرلمانية، الديمقراطية، الحرة والشفافة، منذ أن صعد البعث إلى السلطة بالدبابات عام 1963. وعندما استولى حافظ الأسد على الحكم عام 1970، كان عن طريق انقلاب، استبدل اسمه المدني بصيغة عسكرية (حركة تصحيحية). تخفيفًا لتداعياته على مستوى الشارع. وبعد وفاة الأب القائد، جاء الأسد الابن إلى السلطة باستفتاء صوري؛ كونه مرشح الرئاسة الوحيد، في ظل غياب أي منافس له.
أما الانتخابات البرلمانية، فكثيرًا ما كانت -كذلك- تقترب من شكل الاستفتاء على قائمة واحدة، تسمى قائمة الجبهة الوطنية التقدمية؛ وهي ائتلاف سياسي لا يخرج عن عباءة الحزب الحاكم، تنظمها قيادة البعث، ويجري التصويت عليها آليًا، لا معنى سياسيًا له.
في المقابل، لم يغب عن أذهاننا على سبيل المثال، ما جرى في عام 2007 حين رشح حزب العدالة والتنمية عبد الله غل لرئاسة الجمهورية. وكيف قاطع ، بديمقراطية ، حزب الشعب الجمهوري الانتخابات إلى جانب أحزاب معارضة أخرى. وأُبطلت الجولة الأولى؛ بدعوى أنها لم تجر بحضور أغلبية الثلثين. وفي الجولة الثانية، أعلن “غل” سحب ترشيحه؛ بسبب فشل عملية التصويت مجددًا. غير أنه ربح الجولة الثالثة، وحصل على أكثر من نصف أصوات البرلمان، وانتُخب رئيسًا للجمهورية.
لقد أنتج النظام البوليسي في سورية، خلال نصف قرن، عنفًا لا سابق له في التاريخ الحديث. وإذا كان الأسد قد انتقد أردوغان بوصفه طاغية! بسبب تعرض الشاب “بركن إيلفان” 14 عامًا، في أحد الاحتجاجات للضرب المبرح على يد الشرطة التركية. فكيف يصف نفسه، بعد أن منح وسام البطولة، لجهاز استخباراته الذي قتل الطفل السوري، حمزة الخطيب، 13 عامًا، وسلّم جثمانه لذويه، وعلى جسده آثار تعذيب وطلقات نارية، إذ تلقى ثلاث رصاصات، واحدة في ذراعه اليمنى، وأخرى في ذراعه اليسرى، وثالثة في صدره، وكسرت رقبته، ومثل بجثته بطريقة وحشية؟
في الاقتصاد والديمقراطية، ثمة مسافة كبيرة بين دمشق وأنقرة، لن يتمكن الأسد من تجاوزها، فقد صنع جبالاً من جثث ضحاياه وضحايا نظامه البوليسي القمعي المتوحش، تعوق بقاءه في السلطة، في أقل تقدير.