تحقيقات وتقارير سياسية

تأملات جديدة في الربيع العربي: هل الثورات ظاهرة خاصة بالجمهوريات؟

جاءت إدانة أمير الكويت، صباح الأحمد الجابر الصباح، لثورات الربيع العربي في كلمته أمام القمة العربية الأخيرة، في وقت كان الحوار عن الربيع العربي محتدمًا بمناسبة الذكرى السادسة للثورة السورية، فزادته احتدامًا، وطرحت السؤال عما إذا كانت هذه الإدانة تُمثّل حكم الأغنياء العرب على ثورات الفقراء؟ أم تعكس رؤية الأنظمة الملكية لظاهرة الثورات في البلدان ذات الانظمة الجمهورية؟  وهل يعني هذا التمييز أن “الأنظمة الملكية” أقوى وأكثر مناعة أو حصانة ضد الثورات الشعبية من “الأنظمة الجمهورية”؟

أعادت كلمة أمير الكويت السؤال عن سبب اقتصار الثورات الخمس على بلدان ذات أنظمة جمهورية، ولم تمتد إلى البلدان ذات الأنظمة الملكية؟

هذه الأسئلة مهمة؛ لأن الاجابة عنها تتطلب سبرًا علميًا في أغوار المجتمعات العربية بنموذجيها: الجمهوري والملكي، وبمستوييها: الغني والفقير، وتفرض تسليط الضوء على الخصائص الجوهرية في كل منهما.

نقطة البدء في تناول هذه الموضوعات -كافة- هي دحض الانطباع المغلوط الذي حاول بعضهم إشاعته وتثبيته بتصوير الثورات العربية كأنها ظاهرة خاصة بالجمهوريات؛ لأنه انطباع جزافي ينطوي على افتئات على الحقائق، فالانتفاضات التي حركتها الثورة التونسية بعد نجاحها بإسقاط بن علي، شملت معظم البلدان العربية الجمهورية والملكية، وشملت المغرب والسعودية وعُمان والأردن ولبنان والبحرين بدرجات متفاوتة، وعكست وجود أوضاع عربية ذات قابلية شديدة للاشتعال السريع بتأثير أي شرارة غضب أو احتجاج اجتماعي مفاجئة، وهي قابلية مشتركة ولكن بدرجات متفاوتة؛ نتيجة عوامل متعددة لا تقتصر على الفقر أو الاستبداد أو الفساد… إلخ.

فلو كان الفقر وحده هو السبب، لما وصلت رياح الربيع العربي إلى عُمان والسعودية، ولما هدأت -بعدئذ- في الأردن والمغرب، وكلاهما أفقر من ليبيا وتونس وسورية.

ومن ناحية ثانية، لو كان الاستبداد وحده السبب؛ لما وصلت رياح الربيع العربي يومذاك إلى اليمن ولبنان وعُمان، وكلها تنعم بمستوى مقبول نسبيًا من الحريات والعمل السياسي مقارنة بسورية وليبيا مثلًا، ولكانت دول أخرى كالجزائر والعراق والسودان أجدر بالثورة! ولما هدأت بسرعة في عُمان ولبنان وتجذرت في اليمن.

في الواقع إن معظم البلدان العربية تسودها أوضاع وعوامل قابلة للانفجار، ولكن هذه الأوضاع ليست متطابقة؛ وحتى الأنظمة التي نصفها بالمستبدة والديكتاتورية ليست متشابهة، فالفرق بين النظامين السوري والمصري واسع، وبين الليبي والتونسي واسع جدًا، إلى حدّ أنه لا يصح التعميم، ووضع الجميع في سلة واحدة، لا من حيث الاستبداد ولا من حيث الفساد.

نعم كادت رياح “الربيع العربي” أن تعم كل الأنظمة؛ لأنها تختلف في الحد الأدنى من غياب الحريات، ولا تختلف في الحد الأعلى، لولا أن الأنظمة تمايزت؛ فتعاطى بعضها مع موجات التحرك الشعبي بحكمة وعقلانية وبمبادرات ايجابية سريعة أطفأت الشرارات الأولى، قبل أن تتحول حريقًا شاملًا، بينما قابلت أنظمة أخرى غضب شعوبها بالبطش والتنكيل منذ اللحظة الأولى بحكم تكوينها، فكانت كمن يسكب الزيت على النار، وحافظت على هذا الايقاع الانتحاري حتى اليوم، بعد ست سنوات.

بالطبع، لم يكن هذا التميز وليد الصدفة، أو وليد الرأي في تلك اللحظة، ولكنه وليد طبائع الاستبداد الكامنة في خلايا وبنيات الانظمة التسلطية الوصائية، وقد أثبتت القرائن يومئذ أن الأنظمة الطغيانية الشمولية (التوتاليتارية)، هيأت نفسها سلفًا لمثل هذا الاستحقاق، وتدربت وتمرنت على إبادة شعوبها عبر تجارب سابقة، وهي تتصرف بوحي من عقائد “ثورية” أشبه بالعقائد السماوية، تمنحها حق إبادة معارضيها وخصومها، وتأبيد حكمها وتوريثه ونقله لمن تريد، وكيفما تشاء، ويمكننا في الحال السورية إيجاد حبل غير سري بين قمع نظام البعث لانتفاضة حماة 1964، وقمع حلب 1980، ومذبحة حماة 1982 وصولًا الى إعلان الحرب على الشعب السوري عام 2011، كذلك يمكننا ملاحظة شرعية النظام في كونه مبعوث العناية الإلهية؛ لتحقيق شعار (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) لا شرعيته الشعبية. وفي الحال التونسية يمكننا تشخيص الحبل غير السري بين مذبحة قفصة عام 1979، وقمع انتفاضة الخبز 1984، واعتقالات 1989 وثورة الحرية 2010.

تمايزت الأنظمة العربية في التعاطي مع الاحتجاجات جذريًا. فالأنظمة غير الجمهورية في السعودية والمغرب وعمان والأردن قابلت الغضب بمبادرات إيجابية، تنم عن تفهمها ووعي بالمسببات، وقابلتها في منتصف الطريق؛ ففي السعودية لبى الملك عبد الله بسرعة بعض المطالب الاجتماعية، وأمر بضخ أموال طائلة تمتص الغضب وتخفف الاحتقان، وفي المغرب سارع الملك محمد السادس إلى إجراء اصلاح دستوري (ثوري) يعطي الحق بتشكيل الحكومة للحزب الفائز بالأغلبية. وفي الأردن نزل الملك عبد الله إلى الشارع؛ ليحيي المحتجين ويعلن تفهمه لثورتهم، وفي عُمان قام السلطان بتغييرات سريعة ووعد بمزيد. هذه المبادرات لا تنمّ عن وعي بمعنى السياسة فحسب، وإنما -في العمق- تؤكد الشرعية التاريخية التقليدية للأنظمة الحاكمة في هذه البلدان، وحرص الحاكم والمحكوم فيها كل على الآخر.

أما في جمهوريات العرب، فنحن أمام حال مختلفة كليًا من أسلوب الحكم، ومن العلاقة مع (الرعية). ومع أن أنظمتها كانت في مدى عشرات السنين تقدم نفسها أنظمة تتفوق على نظيرتها الملكية، بعدّها تنتمي إلى الحداثة والتقدمية، وتنعت الأخرى بالرجعية والتخلف، فإنها في مناسبة “الربيع العربي”، كشفت عن درجة عالية من الطغيان والإجرام والاستعداد للبطش واستباحة الدماء بلا قيود ولا ضوابط. كانت الطغم الحاكمة في هذه البلدان تغلف همجيتها بدساتير عصرية وأيديولوجيات ثورية واشتراكية وليبرالية، وبمؤسسات برلمانية وحزبية، وتزايد على الأخرى، وتصفها بالرجعية والافتقار إلى المؤسسات والمظاهر الحداثوية. والواقع أننا أمام تجربة الربيع العربي، نكتشف أن هذه المظاهر والمؤسسات بلا محتوى ولا فعالية، وأنها مجرد اقنعة لزمر وطغم من اللصوص والمجرمين لا هوية لها ولا جذور في بيئتها الاجتماعية، ولا انتماء لها، وثبت إلى العروش عبر الجيوش ثم تخلت عنها واستبدلتها بأجهزة استخبارات تقتل وتبطش وتنهب، بلا رقيب ولا حسيب، وتركت الشعوب تحت رحمة من لا يعرفون الرحمة.

علم الاجتماع السياسي مطالب بمزيد من البحث في خصائص الأنظمة العربية المخالفة، وإعادة تعريفها وتصنيفها، بعيدًا عن التصنيفات السابقة، رجعية وتقدمية، وجمهورية وملكية، فقد سقطت كل هذه التصنيفات، وعلينا البحث عن تصنيفات بديلة، تلائم ما أسفرت عنه تجارب الربيع العربي، والتمييز بين أنظمة شرعية ولا شرعية، وأنظمة إجرامية وأخرى سياسية، بصرف النظر عن الأسماء المتداولة ملكية أو جمهورية أو سلطانية أو أميرية.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق