ما أكثر الندوات، والورشات، والغرف، والتشكيلات، ولقاءات الـ “سكايب” والوسائل الجديدة التي تتحدث وتناقش مرارًا، منذ سنوات، أزمة الثورة، وأعراضها، وضرورة نهوض تيار وطني، أو ديمقراطي، وعقد مؤتمر وطني جامع لقوى المعارضة، وأقله للاتجاه الديمقراطي، أو العلماني وأشباهه، ومع ذلك ما زال الحديث مستمرًا، ويتكرر، دون الوصول إلى حالة مبلورة، ما يطرح سؤالًا كبيرًا عن المعيقات والأسباب.. وهل هي ذاتية، أم موضوعية وخارجية، أم متشابكة؟
كثيرون يتحدثون عن الآخر الإسلامي. يلومونه، ويحمّلونه مسؤولية ما آلت إليه أوضاع الثورة في ظل طغيان “الإسلاموية” متعددة الاتجاهات، وآثارها في محتوى ومسار الثورة، وحواضنها، ومآلاتها، ويذهب بعضهم إلى أبعد من هذا في تناول الإسلاميين على تغلغلهم في الشارع، وكسبهم قطاعات عريضة فيه، وكأنّ ذلك إدانة موصوفة لهم، في حين من الطبيعي أن يعمل كل اتجاه في كسب المؤيدين بالطرق والوسائل المتاحة.
تحضر -هنا- موضوعيًا وذاتيًا جملة العوامل المساعدة للاتجاهات الإسلامية، إن كان ما يتعلق منها بالبيئة الملائمة، والتربة الخصبة لتركيبة شعبنا، وعمق وشيوع إيمانه الديني، وأثر ما يُعرف بـ “الصحوة الإسلامية” التي دُعّمت من الغرب لمحاربة المدّ الشيوعي، والمستفيدة من تقويض المشروع النهضوي، الوحدوي، أو بوجود المساجد والمساحات والأمكنة الملائمة للدعوة والاحتكاك بأعداد كبيرة من فئات شعبية مختلفة، وكسب المؤيدين والأنصار، أو القدرات المالية، والمساعدات كثيرة الجهات التي تصل بأشكال، ومن جهات متعددة، أو بالنجاح في إنشاء بنية قاعدية من الخدمات والجمعيات الخيرية والاجتماعية.
القليل من المناقشات ركّزت على العامل الذاتي الخاص بتركيبة المحسوبين على التيار الديمقراطي، خاصة تلك السلبيات البارزة، والطاغية التي ترافق دومًا تركيب النخبة، إن كان من حيث تعاليها واستعلائها، وضعف القدرة على تفهم الفئات الشعبية العريضة والعيش معها، والتعبير الصادق عن آمالها ومعاناتها، أو الفردية التي تتصف بها والتي تبرز فيها الذاتية والأنا درجة النرجسية لدى بعضهم، وتعدد الخلفيات الفكرية والسياسية، والنزعات الاحتكارية ورفض الآخر، ومستوى الإيمان بالديمقراطية واحترام خيارات المعارض وتجسيدها بما يتجاوز الشعارات، والكليشيهيات العريضة.
لكن، في المقابل، يجب الاعتراف بأن هزيمة المشروع النهضوي بدءًا من هزيمة حزيران/ يونيو المجلجلة، وعجز الاتجاهات الوطنية والقومية واليسارية عن تجسيد أهدافها وشعاراتها، وخيانة نتاجاتها من النظم المحسوبة عليها للمبادئ والقيم الوطنية وغيرها، وتحولها إلى قوى قمعية، شمولية تسحق الشعب، وتغتال الحريات الفردية والعامة، وتجوّف المجتمعات، ثم سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة التابعة له.
خلق مناخات انحسارية متصاعدة أدّت إلى وجود خلخلة وانهيارات في تلك الاتجاهات، وشيوع اليأس من قابليتها وقدرتها على صناعة البديل، أو في تقبّل الفكر اليساري وأحزابه، وخطابه الذي لم يشهد تطورات نوعية تتلاءم وجملة التغيّرات العميقة التي حدثت.. وقد تجلى هذا الوضع المأزوم بوضوح في قيام ثورات الربيع العربي على العموم، والحالة السورية بوجه الخصوص، حين بدت متخلفة عن حركة الشارع، وعاجزة عن أن تكون قيادة فعلية له (على الرغم من أن العجز عام ويشمل جميع القوى السياسية من مختلف الانتماءات).
ويجب أن نضيف عاملًا مهمًا آخر يخص القدرات الذاتية المتوفرة، والجانب المالي منها، تحديدًا، وعدم وجود مصادر للتمويل، أو جهات مليئة، ومستقرة للدعم، ما يجعل كثير المبادرات والمحاولات عرضة للتلاشي، أو ضعف الإنجاز في وقت ازدادت فيه حاجة السوريين للعمل وتوفير لقمة العيش، وانفتحت أمامهم أبواب كثيرة للعيش وجمع المال، والبروز، أو تشكيل المنظمات والجمعيات المستقلة المتنافسة في ما بينها، والمرتبط معظمها بالجهة الممولة.
وعبر العَسكرة، وتعقّد المسألة السورية، فقدت جميع القوى السورية قرارها المستقل والوطني، وباتت مجبرة على القبول بإملاءات الآخر، وأجنداته، وهو ما انعكس على مختلف المؤسسات التي نهضت للتعبير عن الثورة، وفي المنحى العام للمسار السياسي، خصوصًا بعد عمليات النزوح والتهجير والهجرة واللجوء التي ضاعفت حاجات السوريين للآخر، وأثقلت كاهل تلك المؤسسات، ودفعتها لمزيد من الاستعانة بالجهات الممولة والراعية.
هنا يجب أن نسجل أن بعض الفرص الحيوية التي أتيحت لكثير الديمقراطيين، خاصة في مجال تقديم الدعم المالي بتمويل سوري رئيس، لم تستثمر جيدًا، بل إنها ارتدّت سلبًا عبر نتائجها التي كرّست مزيد التشقق والانقسامات.
وبدءًا من المنبر الديمقراطي، إلى القطب الديمقراطي، إلى اتحاد الديمقراطيين، إلى “كلنا سوريون”، وغيرها من المؤتمرات والمحاولات، لم تنجح في تجميع الديمقراطيين وتشكيل تيار جامع لهم. على العكس؛ فمعظمها سرعان ما تآكل بفعل الخلافات غير المفهومة، وغير المسوغة، وبروز النزعات الفردية، وعقلية تحميل الآخر المسؤولية دون القيام بعمليات نقد ذاتي، وجمعي.
اليوم، وتحديدًا بعد هزيمة حلب، يبدو الوضع مواتيًا، والشروط متوفرة لنهوض هذا التيار. بل إن الحاجة ماسّة لوجوده وإسهامه، ومع ذلك، ومع أن آلاف السوريين يتحدثون بلغة متشابهة حول الضرورات، والواجب.. إلا أن تشكيل هذا التيار لم يحدث للآن، وتبدو أن صعوبات متلاحقة تعترض ذلك.
هل للأمر علاقة بتركيبة المحسوبين على هذا التيار، خاصة رموزه المعروفة؟
أم أن ضعف القدرات المالية عامل مهم؟
أم عدم وجود جهة راعية، أو داعمة، عربية كانت أم خارجية؟
أم جميعها؟
مع ذلك.. لا بدّ من السير بخطوات فعلية في هذا الاتجاه، وتعزيز الجهد الذي يبذل من أطراف مختلفة؛ وصولًا إلى بلورات أوضح، وصيغ قابلة للحياة.. تستجيب للتطورات والضرورات.