أبحاث ودراسات

هل سورية آرامية… والعرب المسلمون دخلاء؟!

(1)

في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وبسبب انتشار أنموذج الدولة القومية عالميًا وكذلك بفعل التتريك والسياسات التميزية ضد العرب، وفي سياق المخطط الاستعماري للاستيلاء على أملاك الدولة العثمانية، ازدهر الفكر القومي العربي في المشرق العربي، وقد تجسّد ذلك بالثورة العربية الكبرى 1916 بقيادة الشريف حسين، لم تكن الحركة القومية العربية مؤامرة أو عميلة قط للاستعمار، ولكنّ الاستعمار وظفها للقضاء على الدولة العثمانية. ومن ثمّ؛ فشل عرب المشرق في إقامة دولتهم المنشودة لأسباب ذاتية وموضوعية، وذهبوا ضحيّة لعبة الأمم والمد الاستعماري آنذاك. في تلك المرحلة بدأت تظهر مكتشفات أثرية مهمّة في بلاد الشام والعراق مكتشفات تعيد تعريف الناس بتاريخهم المجهول، وتعيد الاعتبار إلى مرحلة ما قبل الإسلام، وهذا أمر إيجابي في العموم، و لكنّ الغايات الاستشراقية والاستعمارية لم تكن بعيدة عن ذلك، إذ سعتْ القوى الاستعمارية إلى استثمار هذا الموضوع، وبعث الانتماءات المحلّية الغابرة للسكان واستخدام موضوع الأقليات الدينية لغرض الهيمنة، بما يخدم سياسات وأجندات سياسية غير بريئة، لعبت دورًا سلبيًا في مرحلة معينة، وسأورد اقتباسًا في ذلك[1] اشتغل سايكس مساعدًا للّورد كيشنر وزير خارجية الحرب، وعمل مستشارا للحكومة بشأن الشرق الأوسط، وبتحريض منه أنشئ عام 1915 المكتب العربي بمصر ليكون فرعا من جهاز الاستخبارات البريطاني، مهمته ضبط النشاط السياسي في الشرق الأدنى… فقد انصب اهتمام سايكس على بحث سبل تفكيك الإمبراطورية العثمانية التي كانت تسمى وقتذاك “الرجل المريض”، ابتداء بالسياسة والحرب، وانتهاء بحرب المصطلحات؛ إذ عمل لإحياء المُسميات القديمة للمناطق الخاضعة للسلطنة العثمانية، مثل “فلسطين” و”سورية” و”العراق”؛ لترسيخ فكرة انفصالها واستقلاليتها، وعدم خضوعها للعثمانيين.

(2)

يرجّح باحثون أنّ أصل تسمية سورية هو أشيريا.. آسور.. آسيريا.. أي بلاد الآشوريين؛ إذ إنّ إبدال حرف الشين بالسين أمر شائع في اللغات السامية / العربية القديمة، و هناك من يرى بأنّها ” اسم سرياني من كلمة (سر) وتعني السيد ومؤنثه (سارة)، وسوريا تعني (الأرض السيدة أو أرض الأسياد أو الأشراف) وحل الاسم مكان تسمية (آرام )، وذلك بعد انتشار المسيحية، ومحاولة المسيحيين تمييز أنفسهم عن الوثنيين، فأطلقوا على أنفسهم تسمية السريان (أو السوريين) أي الأشراف، وبقيت تسمية آراميين للدلالة على الوثنيين[2] وفي كل الأحوال لا يمكن الجزم بأصل التسمية؛ فهناك آراء عديدة، لسنا في وارد البحث فيها هنا. ظهرت تسمية “سوريا” صريحة في التاريخ مع دولة السلوقيين 312 ق.م – 64 ق.م، واستمر التسمية مئات السنين، بوصفها إحدى ولايات الإمبراطورية الرومانية، إلى أن سيطر عليها العرب المسلمون، معركة اليرموك 636 م. ولا ينبغي لنا الاعتراض على تسمية “سوريا” الآن.. فالأسماء تتغير.. وهذه سنّة التاريخ.. ولكن الإشكالية هي في وجود فهم أحادي جوهراني للهويّة.. يختزل سورية بالآرامية.. ويختزل لبنان بالفينيقيّة.. ويختزل مصر بالفرعونية.. بما يؤسس لنزاع وتنازع اجتماعي سياسي ذي طابع هويّاتي في هذه الدول.

(3)

تنتشر الدعوات الفينيقية والآرامية في المجتمعات المسيحية والعلويّة أكثر من غيرها؛ بسبب فشل السوريين في إقامة دولة المواطنة المتساوية والطبيعة الاستبدادية للسلطة، وكذلك بسبب “انغلاق” المجتمعات العربية الإسلامية السنّية عامة، وأيضًا بسبب انغلاق مجتمعات الأقليات الدينية والقومية على نفسها؛ لمواجهة المحيط، أو ببساطة خوفًا على امتيازاتها ومصالحها السياسية، كما هو حال المارونيّة السياسية في لبنان، والعلوية السياسية في سورية، على الرغم من اختلاف السياقات وتكنيك الهيمنة في كلا الحالتين. تبنّت المارونية السياسية للهوية الفينيقية للبنان لتميز نفسها عن المحيط العربي الإسلامي.. وتوطيد صلتها بفرنسا. بدأ ذلك في القرن السابع عشر مع الأمراء المعنيين ومن ثم؛ الشهابيين، ومن ثمّ؛ حزب الكتائب إبان فترة الحرب الأهلية، وقد انتشرت دعوات مفادها أن اللهجة اللبنانية ليست عربية، بل هي لغة فينيقية، ودعا الشاعر سعيد عقل -مثلًا- إلى استخدام الأحرف اللاتينية بدلًا من الأحرف العربية في كتابتها. وفي السياق نفسه يمكن النظر إلى النزعات الآرامية في سورية التي انتشرت بين مثقفين سوريين في عقب اندلاع الثورة/ الحرب السورية 2011، فأصبحوا ينقّبون في بطون الكتب والتاريخ عن أبطال ومناسبات وأسماء وأعياد آرامية/ سريانية يحتفلون بها في مواجهة الثقافة والتقاليد العربية الإسلامية. انتشرت النزعات الآرامية أكثر بين المثقفين السوريين المنحدرين من أصول مسيحيّة، أو علويّة، أكثر من غيرهم، وكثيرٌ منها على مبدأ “جكارة بالطهارة راح شخّ ب تيابو”.. جكارة بالعرب والمسلمين سورية ليست عربية وليس مُسلمة.. سورية آراميّة! جكارة بداعش والسلفية الجهادية سورية آرامية وسريانية… إلخ. تربط النزعة الآرامية بادعاء الأصالة.. فالمثقفون الذين يقدّمون أنفسهم بصفتهم سوريين آراميين يدّعون الشرف والأصالة لمجتمعاتهم وثقافتهم.

(4)

لقد استفادت إسرائيل من مفهوم الهوية الآرامية لشرعنة وجودها، فالآراميون –وفقًا لزعمهم التاريخي- هم أشقاء للعبرانيين، وبذلك يُتخلَّص من العُقدة العربية الإسلامية بالنسبة إلى الصهاينة، وبذلك يُفرَّق الفلسطينيون بين مسلم و مسيحي، وتضييع الهوية العربية والهوية الفلسطينية؛ فقد أعلن وزير الداخلية الإسرائيلي، غدعون ساعر، مطلع هذا العام الاعتراف بالقومية الآرامية قومية رسميّة في إسرائيل، والمقصود بهم المسيحيين وعرب 48، من غير المسلمين السنّة، فأسّس شادي حلول -ضابط في جيش الاحتلال- قبل خمس سنوات “الجمعية الآرامية في إسرائيل”، وينتسب إليها اليوم 515 شخصًا فقط، من بين الفلسطينيين المسيحيين الذين يعدون نحو 133 ألف نسمة 10 في المئة من فلسطينيي الداخل، ويدّعي حلول “أن المسيحيين يعانون من وصاية وهيمنة المسلمين عليهم منذ 1400 سنة، ويرغبون في “التحرر من هذا العبء”، نافيًا اتهامات واسعة توجه له بالسير مع مخططات إسرائيلية، ويُتابع أنه “قبل الإسلام تحدث المسيحيون الآرامية قبل أن تفرض عليهم اللغة العربية عنوة، واليوم تُقدم “داعش” أنموذجا للحكم الإسلامي البربري المجنون الذي بدأ يسيطر على الشرق الأوسط في القرن السابع الميلادي[3].

(5)

الهوية السورية -وأي هوية- هي لزومًا متعددة الأبعاد.. هناك بعد عربي إسلامي مهم في الهوية السورية، كما يعيشها وينتمي إليها السوريون. ليس الحلّ في إنكاره؛ فهذا غير ممكن، ولكنّ الحل في إيجاد وتعزيز فهم حيوي حضاري للعروبة وللإسلام، فهمٌ يتجاوز فيه الإسلام كونه عقيدة فئويّة بالخاصة، والعروبة كونها عرق أو اثنيّة فئوية بالخاصة، ولا داع لوضع معادلات من قبيل: سورية عربية أم آراميّة؟ سورية إسلامية أم مسيحية؟ فسورية كلاهما، لا بل وأكثر من ذلك. لكن ينبغي تأكيد أن ثقافتنا السورية المعاصرة ليستْ مقطوعة الجذور بتاريخ ما قبل الإسلام، فالأدق تسمية الشعوب السامية بالشعوب العربية القديمة، فاللهجات العربية المحلية في سورية -إلى الآن- كثير من مفرداتها آرامية – سريانية، وكثير من أسماء البلدان أسماء آرامية/ سريانية، والإسلام هو سليل الديانات الإبراهيمية، كما هو حال اليهودية والمسيحية أيضًا، وهو لم يأت من فضاء مختلف ثقافيا، والمسيح الأرامي نحن أقرب إليه ثقافيًا -ربّما- من المسيحي البرازيلي مثلًا! والعلوية والإسماعيلية والدرزية والمرشدية.. هي فئويات عقائدية إسلامية وليست بوذيّة أو يهوديّة مثلًا! وهي جزء من التراث العربي الإسلامي المشترك لسكّان المنطقة. ثمّ إنّ فكرة القطيعة المعرفية -عامة- منافية للبرهان، إذ إنّ كل سلطة سياسية عندما يستتب لها الوضع تمحو التاريخ السابق لها من ذاكرة المجتمع، أو تبالغ في سيئات من قبلها، وهذا قانون ينطبق على الثقافة العربية الإسلامية التي تميل -عامة- إلى بخس المجتمعات والثقافات السابقة لها حقّها واختصارها بمُسمّى الجاهلية أو الوثنية!

(6)

إن المثقفين العرب من دعاة الآرامية أو الفينيقية أو الآشورية أو الفرعونية يستخدمون اللغة العربية في تعبيراتهم! ويعبّرون ويكتبون رؤيتهم للهوية –النافيّة للعروبة- باللغة العربيّة! واللغة – كما هو مستقرّ- تتجاوز أن تكون أداة فحسب، إلى كونها وعاء للفكر وذاكرة للشعوب، هؤلاء المثقّفون ينشدون شعر المتنبي والمعريّ وأبو نواس ومحمود درويش.. ويفتخرون بالفارابي ومحي الدين ابن عربي وابن رشد وابن سينا.. وأسماؤهم أحمد وعليّ ومحمّد ويوسف وسعيد… وهم يستمعون إلى فيروز وعبد الحليم حافظ ومحمد عبده وأم كلثوم! وإذا مات دفن وفق مراسيم إسلامية أو مسيحية، وبعد ذلك ينكر البعد العربي الإسلامي في هويته! هناك أمور وقضايا لا يختارها الإنسان، فاللغة والجنس والأسرة، وكذلك التقاليد والثقافة التي نعيش فيها هي في حدود كبيرة ليست خياراتنا، ومن العبث بمكان استبدال هويّة وثقافة المجتمعات والشعوب بهذه الطريقة الحادّة والانفعالية. الهوية أو الثقافة ذات طبيعة تراكمية متفاعلة، لا يمكن فيها القفز فوق التاريخ، كذلك لا ينبغي فيها محاكمة التاريخ بعيون ومفهومات الحاضر.

(7)

الإسلام ليس بداوة فحسب، هناك حواضر إسلامية عبر أكثر من ألف عام من التاريخ وحاليًا. وإذا لم تكن دمشق حاضرة عربية إسلامية وبغداد والقاهرة؛ فماذا تكون؟ البدو يستوطنون، وقد يصبحون مزارعين وسكان مدن ويتفاعلون مع سكان الحواضر، والبداوة ليستْ صفة سلبية بالضرورة، وليستْ البداوة حكمًا نهائيًا على شعب أو قوم، فمن كان بدويًا قد يصبح حضريًا! والسلالة الأموية التي حكمت دمشق، والعباسية التي حكمت بغداد لم يكونوا بدوًا رحّلًا. لا أحد يقول عن أبي جعفر المنصور أو المأمون بدويًا.

(8)

العربية وثيقة الصلة بالآرامية، وهي لغة وليستْ عقيدة دينية! لا توجد عقيدة اسمها الآرامية أو العروبة أو البداوة! لكل كينونة اجتماعية بعد عقائدي ديني أو غير ديني، إسلامي، مسيحي، الحادي يهودي، ديانات طبيعية… إلخ. الزمن لم يتوقف قبل 1400 سنة، وينبغي أخذ المُتغيرات وثقافة العصر الذي نعيش فيه في الحسبان. الهوية شكل مُتعدد الأبعاد متراكب وصيرورة تاريخية حركية احتمالية نسبية، كيف يمكن لغزاة بدو أن يحتلوا بلدًا كسورية لمدة 1400 سنة؟ هل سمعنا عن احتلال عمره 1400 سنة!! ومعظم سكان سورية لا يشعرون بأنه احتلال!!

(9)

يقتضي الواجب نقد الفهم الجوهراني الثابت للإسلام، وتجريم سائر تعبيرات السلفية الجهادية، السنّية والشيعيّة، من حيث أنّها الوجه الآخر لقصور مجتمعاتنا، وهي تتحمّل جزءًا من مسؤولية تفكك النسيج الاجتماعي السوري، وبحث بعض السوريين عن انتماءات وهويات فئوية بديلة، ضافة إلى كون السلفيات الإسلامية تُستخدم فزّاعة، وتلعب دور الحليف الموضوعي لأنظمة الاستبداد، وفقًا لقراءة أوّلية في تجارب ثورات الربيع/ الخريف العربي.

(10)

إن أي مقاربة سياسية أو ثقافية للشأن السوري، وما انتهى إليه، لا تأخذ في مسؤولية النظام الاستبدادي الأسدي – الذي حكم سورية نصف قرن- عما جرى من تخريب للنسيج الاجتماعي السوري سابقًا، وأي مقاربة سياسية ثقافية -كذلك- لا تشير إلى مسؤولية السلطة السورية وسلطة ولاية الفقيه في إيران عما جرى ويجري حاليًا، هي مقاربة مُنحازة. في الغالب، ووفقًا لخبرة كاتب السطور، المثقفون السوريون أصحاب النزعة الآرامية – السريانية لديهم حساسية مبالغ فيها تجاه العروبة والإسلام، ولكن لديهم –في الغالب- نقص تحسس تجاه العقيدة الأسديّة، أو تجميل أو سكوت عن وحشيتها، ولا ضير في ذلك طالما أنّ سلطة الأسد (القومية العربية) هي من تحميهم من الغدر المفترض لإخوتهم السوريين، من العرب المسلمين!!

(11)

كل دين، بما فيه الإسلام، وكل قومية بما فيها العربية، هو شكل حركي احتوائي احتمالي نسبي، يعرض لمصالح وصلاحيات أكثر أو أقل حيوية من بعضها بعضًا، ربطًا بأولويات الحياة والعدل والحرّية -وفقًا لنظرية المنطق الحيوي- ولا يوجد جوهر مسلم أو جوهر عربي ثابت وشرير، وإذا شبهت الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة بالطفل المريض، فالحل لا يكون في قتل الطفل ورميه بعيدًا، ولكن ينبغي العناية به، ومعالجة أسباب وأعراض المرض.

 

الهوامش

[1] سايكس.. دبلوماسي قسّم العرب وقتلته الانفلونزا, موقع الجزيرة نت، الرابط:

http://www.aljazeera.net/encyclopedia/icons/2016/5/18/%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%83-%D8%B3%D8%A7%D9%8A%D9%83%D8%B3

[2] معنى اسم سورية وسبب التسمية، موقع سوريتي، تاريخ 27-4-2015

http://www.souriyati.com/2015/04/27/6345.html

[3] مسيحيو فلسطين يرفضون اعتراف إسرائيل بالقومية الآرامية، الجزيرة نت/ الرابط:

http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2014/10/22

 

مقالات ذات صلة

إغلاق