(1)
لا بد من تأكيد -ابتداء- أن مُستند الحق لشرعية السيادة، ومشروعية السلطة، ليس ثابتًا عبر العصور، وإنما كان هذا المستند، وما يزال، يتغيّر مع تطور التكوينات الاجتماعية للبشرية، من الفردية البدائية إلى الأسرة، إلى العشيرة، إلى القبيلة، إلى الشعوبية، إلى الأمة، وربما نكون الآن على أبواب مرحلة أكثر شمولًا باتجاه القاريّة. يترتب على هذا، أن أي محاولة لتأسيس “دولة” لا تأخذ في الحسبان المرحلة التي وصل إليها المجتمع، هي محاولة غير مشروعة، سواء صدرت تلك المحاولة عن عدوان خارجي على المجتمع، أو تمت بفعل عناصر مُتخلفّة تحاول إعاقة تطور المجتمع من الداخل، وبما أن البشرية تجاوزت مراحل ما قبل التكوين القومي للأمم، باستثناءات محدودة، وإذ إن الأمة المكتملة التكوين تصبح مستند الحق في تأسيس الدولة، في هذا العصر، فإن “الدول” التي لا يُراعى في تأسيسها حدود أرض الأمة (الوطن) ، وحدود البشر (الشعب)، تكون دولًا غير مشروعة، أُسست لأسباب عدوانية على تلك الأمة، وأن كل أشكال النضال لإزالتها تكتسب مشروعية، لا يمكن الانتقاص منها في أي حال من الأحوال. وأن أي بحث في مشروعية المنظومة القانونية للدولة، قبل حسم مستند شرعية تأسيسها، يُصبح بلا معنى.
وقد تنبّه الفقه الإنساني إلى هذه الناحية، فتعددّت النظريات، والآراء الفلسفية، والقانونية في تحديد مفهوم الأمة، وعوامل تكوينها في العصر الحديث، ذلك أن الاهتمام في تحديد عوامل تكوين الأمة كان في صميم الاهتمام؛ لإقامة الدولة الشرعية المعاصرة مما يُميز الأمم بعضها عن بعض “وحدة اللغة كما قال فخته الألماني، أو وحدة الأرض والأصل والعادات واللغة والاشتراك في الحياة، كما قال مانت شيوا الإيطالي، أو وحدة الرغبة في الحياة المشتركة، كما قال رينان الفرنسي، أو وحدة التاريخ واللغة والحياة الاقتصادية والثقافية المشتركة، كما قال ستالين السوفياتي، أو وحدة اللغة والاشتراك في التاريخ، كما قال أبو خلدون ساطع الحصري”(1). أو “أن التطور السوي للفرد يتضمن توجه طاقة الدوافع في مجرى أهداف محددة، تتعلق بالثروة الشخصية، أو الامتياز، كما قال مفكرو الولايات المتحدة الأميركية في دائرة معارف هاريمان”(2).
(2)
وبغض النظر عن مدى الصواب والخطأ في تلك الآراء والنظريات، فإن الذين فكروا في تأسيس الدول المعاصرة فكروا -أولًا- في تحديد مُستند الحق، وهو الأمة؛ لتكون “الدولة” مُتطابقة مع تلك الأمة، أرضًا وشعبًا، كما حددّوا مكوناتها.
وعندما نكون في مواجهة أمة مكتملة التكوين، فإن هذا يعنى تجاوز إمكانية اعتماد أوضاع قبلية، أو عشائرية، أو أسرية، أو عنصرية، أو اثنية، أو طائفية، بعدّها مستندًا لتأسيس “دولة”، وهذا بوردو يقول: “كانت ضرورة البقاء، خلال آلاف السنين، السبب الوحيد لوجود التجمعات البشرية، وكانت تستلزم ثلاثة موجبات هي: الطعام، والصمود أمام الجيران، وعدم إغضاب الآلهة. وكانت السلطة السياسية امتدادًا للسلطة العائلية… أو توسعًا للسلطة الدينية. ولا يمكن لهذا الشكل من السلطة أن يستمر في العيش عند درجة معينة من التطور الاجتماعي، ولا يمكن مشاهدتها إلا لدى الجماعات التي توقف تطورها “(3).
(3)
ونحن، هنا، سنتدخل في ما قاله بوردو، فنقول إن تلك الجماعات قد لم يتوقف تطورها ذاتيًا، وإنما على الغالب تم ذلك بفعل عدوان خارجي (لإيقاف تطورها) تحقيقًا لغايات معروفة جيدًا في هذا العصر. تلك الغايات التي من أجلها طُمست القضية الأساسية التي تُبنى عليها شرعية الدولة، بالخلط بين الأمة ونظام اقتصادي معين، أو نظام سياسي معين، أو نظام اجتماعي معين، ليُقال إن أمة ما هي “أمة رأسمالية”، أو “اشتراكية”، أو أن أمة ما استعمارية، أو تحررية، وأن أمة ما، تُحقق المساواة، أو تنشر التمييز العنصري. هذه كلها صفات، وسمات لأنظمة مُعيّنة اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية، ولكنها ليست في أي حال من الأحوال صفات، وسمات خاصة بأمة دون أخرى، فالأمة -كما يقول الفقه العربي- “طور من المجتمعات لم يكن موجودًا منذ البداية، بل جاء نتيجة لتطور تاريخي أصاب المجتمعات الشعوبية، والقبلية التي سبقته. وأن الأمم لم تتكون اعتباطًا، ولكن تكونّت من خلال بحث الناس عن حياة أفضل. ومن هنا نستطيع أن نقول إن الأمم ستبقى إلى أن تستنفد كل إمكانياتها في تحقيق أفضل حياة يُمكن أن يُحققها المجتمع القومي لأبنائه، وتزول عندما تُصبح قيدًا على حركة التطور الاجتماعي باتجاه الحياة الأفضل. وهي لن تزول إلا نامية في تكوين اجتماعي أوسع أرضًا، وأعرض بشرًا، وأكثر مقدرة على التقدم.”(4).
(4)
إذن؛ من أين جاء ذلك الخلط، غير البريء، بين الأمة، بوصفها تكوينًا اجتماعيًا، وبين بعض النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟
لا شك في أننا نعيش في عصر هيمنة الحضارة الأوروبية، وثقافاتها، وفقهها، فعندما ضاقت الشعوب، والأمم الأوروبية بتكوينات إمارات النبلاء، وأسر الملوك، والإقطاعيات، والأوضاع ذات الطابع القبلي والعائلي، وتسلط رجال الكنيسة، كان لا بد من التطور إلى مرحلة أرقى؛ فبدأت الثورات والاضطرابات، وضعفت قبضة قوى التسلط؛ فارتسمت حدود الأمم الأوروبية، وانبثقت الدول بمفهومها المعاصر بعد معارك دامية في ساحات القتال، ومعارك عاتية في ساحات الفكر، والفقه، والفلسفة، والقانون؛ فبعد أن “كان لكل نظريات الدولة والحق الكثيرة طابع ديني، وكان للكنيسة احتكار أيديولوجي في ذلك العصر. وكان يرى في الدولة والحق التعبير المباشر عن الإرادة الإلهية، وخليفة الله.”(5)، ظهرت نظرية الحق الطبيعي. التي بنى عليها “روسو” نظريته الشهيرة :”العقد الاجتماعي” التي تنطلق بدقة من أن كل الناس يكتسبون الحقوق الطبيعية، يُبرمون بينهم عقدًا اجتماعيًا … وفي مقابل “نظرية الحق الطبيعي” ظهرت في ألمانيا نظرية تُعبّر عن الحال الاجتماعية لهذا البلد، إنها نظرية “المدرسة التاريخية” ، ومن أبرز ممثليها “هوغو، وأسافيني ، وبوشتا” ، وقد ظهرت بعد الثورة الفرنسية؛ ففي هذه النظرية : “يظهر الحق في الروح الشعبية التي هي خاصة بكل شعب، كما تظهر لغته، وخصائصه الأخرى، وهذا الحق يتبع التطور البطيء لهذه الروح الشعبية، ولهذا لا يوجد حق بالنسبة لكل البشر، ولكل الأزمنة، وإنما حقوق قومية خاصة تُناسب روح كل شعب، وكل واحد من هذه الحقوق يتعدل أيضًا، ويعرف ثلاث مراحل في تطوره، مرحلة الحق العرفي، غير المنظور، غير الواعي، ومرحلة الحق العلمي، ومرحلة التشريع”(6).
وهكذا قدمّت “المدرسة التاريخية” فكرة “شرطية الحق” بالواقع الملموس الخاص بكل شعب.
(5)
وعلى الرغم من تنوع المناهج، والنظريات التي حاولت دراسة ظاهرة الأمة، وتحديد عواملها، فإن الفقه المنهجي، والقانوني الأوروبي، بُني على أساس النموذج الأوروبي، فالأمة هي الأمة كما تكونّت في أوروبا، والشعب هو الشعب كما تكون فيها، والدولة هي “الدولة” كما تشكلت في أوروبا، والنظم الاجتماعية، والسياسية، هي النظم الاجتماعية والسياسية الأوروبية، وهذا مفهوم؛ لأن أوروبا، أممًا ودولًا، لم تبق في أوروبا، وإنما أرسلت جيوشها وتجارها وشركاتها وسفنها وطائراتها وعرباتها إلى أرجاء العالم، تحمل معها أفكار أصحابها ونظرياتها. وهذه قضية لا يُنكرها فقهاء أوروبا، فهذا “هارولد لاسكي” يقول بصراحة، بعد أن يُحدّد ما يعنيه بالمجتمع، من أنه مجموعة من البشر يعيشون سويًا، ويعملون معًا من أجل إشباع حاجاتهم المشتركة: “لأسباب تاريخية، وجغرافية مختلفة، لا مجال للغوص فيها، (سنقصر) اهتمامنا على مجتمعات مثل انجلترا، وفرنسا، وألمانيا، ألا وهي تلك المجموعات من الناس التي تتميّز باشتراكها في تقاليد سياسية، وسيكولوجية، ولغوية معينة، وبذلك تكون المجتمعات التي (سنعالجها) -أساسًا- هي تلك التي توفر لها شكل الدولة القومية”(7).
ونحن لن نذهب مع ردة الفعل، لنقول إن الأمم في العالم تكونت بغير العوامل التي تكونت بموجبها في أوروبا، وإنما نقول إن الأمم تتكون استنادًا إلى قواعد وقوانين مُحدّدة، تتعلق بالقانون النوعي للإنسان، وقانونه الاجتماعي، وسبُل عمل تلك القوانين، مما لا يتسع له المجال هنا، وهذا يعني أن أي نموذج لتكوّن الأمة يصلح لتعميمه إنسانيًا في مستوى الجماعات البشرية، بما في ذلك النموذج الأوروبي، وسواه، لكن ما نعترض عليه هو العنصرية في النظرة إلى العالم؛ لأن جرثومة العنصرية تؤدي إلى النظرية الجزئية، التجزيئية، للإنسان، والمجتمع، والعالم، وتؤدي في ما تؤدي إليه إلى ذلك الخلط المشوه للتاريخ، والإنسان بين عوامل تكوين الأمة (كأمة في كل زمان ومكان)، وبين عوامل تكوين نظم سياسية واقتصادية؛ إذ تُنسب إلى الأمة وقائع وجرائم هي -في حقيقة الأمر- عدوان على أمم الأرض قاطبة، بما في ذلك الأمم التي تنتج أنظمة، تستخدم شعوبها لتنفيذ تلك المهمات العدوانية.
هوامش، ومراجع:
(1) د. عصمت سيف الدولة– العروبة والإسلام-مصدر سابق-صفحة (35).
(2) نظرية الثورة العربية-الكتاب الثاني-د. عصمت سيف الدولة-مصدر سابق-صفحة (12).
(3) جورج بوردو-الدولة-مصدر سابق-صفحة (23).
(4) نظرية الثورة العربية-الكتاب الثالث-د. عصمت سيف الدولة-مصدر سابق-صفحة (238).
(5) راد ومير لوكيل-الدولة والحق-مصدر سابق-صفحة (199).
(6) المصدر السابق-صفحه (205).
(7) هارولد لاسكي-الدولة في النظرية والتطبيق-مصدر سابق-صفحة (40).