تحقيقات وتقارير سياسية

اقرؤوا تاريخه… الجيش السوري لم يكن يومًا درعًا للوطن

حين انطلقت ثورة السوريين السلمية في آذار/ مارس 2011؛ مُطالبةً بالحرية والكرامة والمواطنة، كان معظم السورين يعون تمامًا ماهيّة النظام الحاكم وإجرامه، وعنف دولة الأمن والمخابرات التي يعيشون فيها، وكان الهاجس حينذاك الصدام مع قوات الأمن والاستخبارات، دون التفكير أو البحث في موضوع الجيش؛ لكونه جيشًا بائسًا ضعيفًا، من جهة؛ ولأن قيادته ليست إلا قطاعَ فساد وإفساد ونهب وسرقة، من جهة أخرى.

حين زج النظام بقوات الجيش في مواجهة المتظاهرين السلميين، راهنت أوسع الشرائح من السوريين على استمالة الجيش أو تحييده؛ لترجيحها أن هذا الجيش المهترئ المهلل يتشكل من أبناء هذه الثورة، وبلداتها وقراها، ولن يُشارك في قتل أهله.

جرت محاولات عدة لاستمالة أفراد الجيش وتذكيرهم بانتمائهم إلى أهليهم، من توزيع الورود والماء عليهم (داريا مثالًا)، إلى الوقوف بصدور عارية أمامهم (حماة مثالًا)، إلى رفع عبارات ولافتات وترديد هتافات، من قبيل: “الشعب والجيش إيد وحدة”، لا بل ذهب جمهور الثورة أبعد من ذلك، بتسمية أحد الجمع بـ “جمعة حماة الديار” (27 أيار/ مايو 2011)، إلا أن ذلك كله لم يُفلح، ولم يردع هذا الجيش الذي قتل وضرب المتظاهرين بالرصاص الحي، وبعدئذ بأنواع شتى من الأسلحة؟

من خلال مراجعة تاريخية لأحوال نشأته وتركيبته، نجد أن ما يسمى “الجيش العربي السوري”، ليس له من اسمه أي نصيب، فلا هو بجيش، ولا يمت إلى العروبة بصِلة، فضلًا عن أن يكون منتميًا إلى سورية الوطن والأمة، وقد أكد حنا بطاطو، المؤرخ الفلسطيني- الأميركي، المختص في تاريخ المشرق العربي الحديث، في بحثه الدقيق والمعمّق في كتاب “فلاحو سورية”، أنّ ما لا يقل عن 61.3 في المئة من الضباط الذين انتقتهم يد حافظ الأسد، بين عامي 1970 و1997؛ ليحتلوا المواقع الرئيسة والقيادية في القوات المسلحة، والتشكيلات العسكرية النخبوية، وأجهزة الأمن والاستخبارات، هم “من طائفته وعشيرته”، أي: أن حافظ الأسد لم يعتمد على الطائفة فحسب، وإنما ذهب أبعد من ذلك في البحث والانتقاء من عشيرته، وعشيرة زوجه، فكان أبرز 12 قائدًا من قيادات الصف الأول، من عشيرته (الكلبية)، وعشيرة زوجته (الحدادين)، ومن أبرزهم: رفعت الأسد، عدنان الأسد، غازي كنعان، علي حيدر، ومحمد ناصيف (عشيرة الكلبية)، وعدنان مخلوف، محمد مخلوف، إبراهيم حويجة، ومحمد الخولي (عشيرة الحدادين)، وإبراهيم الصافي، أحمد الصالح، عبد الكريم رزوق، علي أصلان، وعدنان بدر حسن (عشيرة الخياطين)، وعلي دوبا، علي الصالح، علي حبيب (عشيرة المتاورة – وتُعرف هذه العشيرة بزعران الطائفة).

خلال الثمانينيات استُبعد أغلب عناصر عشيرة الخياطين من المراكز المهمة؛ بسبب خلاف تاريخي، له علاقة بالنشأة والمكانة والقيمة لهذه العشيرة، مقارنة بعشيرة حافظ الوضيعة، اجتماعيًا وقبليًا؛ ما جعلها -أيضًا- محط عداء من حافظ الأسد (بحسب شهادة أحد المعارضين البارزين المنتمين إلى عشيرة الخياطين).

كذلك أجرى حافظ الأسد إجراءات تجميلية؛ لإبعاد تهمة تطييف الجيش؛ حيث صدّر إلى الواجهة العسكرية والأمنية وجوهًا سنّية؛ فوزير الدفاع، ومدير الاستخبارات العامة، ورئيس الأركان، وقائد القوى الجوية كلهم من السُّنة، وعلى الرغم من ولاء هؤلاء القادة له، ولاءً فاق ولاء أبناء طائفته، إلا أنهم لم يكونوا أكثر من ديكور أو دمى متحركة، بلا أي سلطة أو قرارات حاسمة، وظلت هذه الدمى دائمًا محكومة بمحيطها الأمني العلوي، ومن هؤلاء: مصطفى طلاس، حكمت الشهابي، ناجي جميل، عدنان دباغ، وبشير النجار، وغيرهم.

بات التطوع في الجيش السوري حظوة للأقليات، وبعض أهالي الأرياف البعيدة المهملة المهمّشة، فيما ابتعد، أو أُبعد، السُّنة عمومًا، وأهل المدن خصوصًا من الجيش، ولا سيما عن رتب القادة، وبذلك أصبحت تتوزع شرائح الجيش السوري إلى الضباط القادة، بأغلبية عظمى علوية، مع قلة سنية (ديكور في الواجهة)، وضباط أمن علويين حصرًا (المتنفذين الحقيقيين)، فيما كانت الرتب الوسطى من مساعدين أو رقباء -في الأغلب- من حظ الأقليات كالدروز والمسيحيين، وتُترك القواعد أو اليد الضاربة لسكان المحافظات الشرقية مع خليط الخدمة الإلزامية، وبذلك ضمن الأسد ولاءَ الجيش وطاعته وتماهيه مع سلطة الأب “الرب”، وكانت المكافأة أن ترك حافظ الأسد الأمور في الجيش على غاربها، من فساد وإفساد، مقابل الولاء لشخصه وحده، فتحول الجيش إلى مؤسسة نهب وفساد ورشًى، وباتت الخدمة الإلزامية موسم الحصاد الدائم الذي يُغذّي شريان الضباط، إضافة إلى سرقة التعيينات والمعدات وغيرها، وكلما غرق الضباط في الفساد والنهب زاد ولاؤهم وطاعتهم، فقد عرف السوريون طوال حكم عائلة الأسد ظاهرة أطلقوا عليها اسم “التفييش”، وهي “الكود” السري لأحد أهم ظواهر الفساد التي تحولت إلى ظاهرة “قانونية” مجازة من الأسد، وممهورة بخاتمه وتوقيعه، واعتُمدت واحدةً من البديهيات المتفق عليها سرًا وعلنًا.

و”التفييش”، باختصار، نوع من دفع البدل للمطلوبين لخدمة العلم، ولكن هذا البدل لا يُدفع للدولة أو الحكومة، ولا للخزينة العامة، بل يذهب إلى جيوب مرتزقة الأسد من الضباط المقربين.

قبل قرار التطوع في جيش الأسد، يدخل المبلغ المتوقع من عمليات “التفييش” في حسابات المتطوع التي تشمل الراتب والامتيازات الأخرى، المستحقة منها والمسروقة، مثل “بونات” البنزين، سرقة قطع السيارات العسكرية الجديدة، وبيعها واستبدالها بأخرى مستعملة، تزوير فواتير قطع السلاح وفواتير المهمات، وغيرها كثير من أبواب النهب التي فتحها الأسد على مصراعيها، بعدّها تعويضات غير رسمية للضباط؛ لقاء ولائهم لشخصه، لا للوطن أو للمهمة المقدسة في حمايته، فكانت حافزًا لإقبال هؤلاء على التطوع؛ لأنها توفر راتبًا شهريًا إضافيًا مضمونًا ومغريًا أكثر من التعويضات القانونية كلها؛ بحكم صلاحية الاستعباد التي منحها الأسد لعبيده من الضباط شديدي الولاء.

وبناءً عليه، لم يُؤسّس الجيش جيشًا، وإنما مؤسسة يرأسها قطّاع طرق؛ لصوص مأجورون، برعاية رئيس دولة، يعدّ نفسه مالكًا لمزرعة.

مؤسسة تخدم مصالحه وبقاءه من دون حسابات لوطن، ويرفد قواعدها من شباب البلد بمسمى الخدمة الإلزامية وحماية الوطن، وخدمة العلم، ومواجهة العدو المتربص على الحدود، وتحرير فلسطين، وغيرها من الشعارات الكاذبة الفارغة.

بعد أن استخدم هذه المؤسسة في الستينيات؛ لتصفية خصومه وشركائه ومنافسيه، لم يلبث أن حرّكها بداية 1979؛ وحتى 1982 فسحق بها حركة التمرد ضد حكمه، في ما عُرِف في سورية بحركة “الإخوان المسلمين” في حماة، وهي أبرز المجازر وأشهرها ، وفي حلب وجسر الشغور ودوما والميدان القديم، وسط دمشق، ثم دفعها عام 1982 إلى غزو بيروت واحتلال لبنان؛ بدعوى حمايته، بينما عاث هذا الجيش فسادًا وإفسادًا هناك، كذلك دفع حافظ بهذه العصابة، ضمن لعبة مصالح إقليمية، إلى مساعدة الجيش الأميركي في حرب الخليج عام 1991 وضرب العراق، ثم رحل الأسد عام 2000، وورث ابنه البلاد بأكملها، بجيشها ومؤسساتها ونظامها؛ فقد حفظ درس أبيه جيدًا، بل برع في الإجرام أكثر منه؛ فدفع هذا الجيشَ لسحق “انتفاضة” الأكراد عام 2004 في القامشلي وبعض مناطق دمشق؛ ثم أطلق عناصره كالوحوش الضارية الجائعة في مواجهة ثورة الشعب عام 2011؛ لتقتل وتفتك وتعتقل وتنهب وتُدمّر وتغتصب، في مشهدٍ لم تمارسه قوى غازية عبر التاريخ.

على الرغم مما تقدم، هناك بعض “المعارضين” الذين يُطالبون بالمحافظة على مؤسسة الجيش، وإعادة هيكلتها، فعن أي مؤسسة وأي هيكلة يتحدث هؤلاء؟

ليقرأ أصحاب تلك الدعوات تاريخَ هذا الجيش جيدًا، وليحترموا دماء الشهداء وآهات المعتقلين وأنين المهجّرين، وليشاهدوا الخراب والدمار والقتل والتشريد والويلات والكوارث التي أسهم هذا الجيش “الباسل” في إيصال سورية إليها، وفي الحقيقة، لم يعد يستوي الحديث عن المحافظة على مؤسسات، وإعادة هيكلتها، طالما أن القتلة موجودون، بل بات من الأجدى والأولى الحديث عن بناء جيش جديد حقيقي وطني، يقف على مسافة واحدة من جميع المواطنين، مهمته حماية سورية الوطن والإنسان، لا حماية النظام، جيش يصون ولا يُهدد، يحمي ولا يسرق، وبعد ذلك يمكن الحديث عن إمكانية الاستعانة بمن لم تتلوث أيديهم بالدماء، إن وُجدوا.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق