مقالات الرأي

السلطة غول يلتهمنا

عودة إلى الحديث مرة أخرى عن غول السلطة، وسآخذ مثالًا عمّا يمكن أن تفعله السلطة بالمُلكيَّة؛ لأنها أحد أهم الأسس، إن لم تكن الأهم، في حياة البشر، لنرى من أين يستمد هذا الغول كلّ هذه السطوة وهذه الصلاحية.

فقد قرأت -هذا الصباح- “إعلان نزع ملكية” في إحدى الصحف، وكان يتعلق بنزع ملكية عقار، ويدعو الإعلان صاحبَ العقار إلى أن يذهب إلى المحكمة مصطحبًا وثائق ملكيته لاستكمال نزعها منه.

ألا تبعث كلمة “نزع الملكية” شعورًا يماثل “نزع الروح”؟

قد لا يثير نزعُ الملكية، في بلدٍ محترمٍ، مثلَ هذا الشعور، إذ غالبًا ما يكون هذا الإجراء لمصلحة عامة، على أن ينال صاحب المِلك تعويضًا عادلًا، يعادل قيمة الملكية المصادرة في السوق لحظة المصادرة.

يتخذ نزع الملكية بالنسبة إلينا -السوريين- خلال السنوات الست الأخيرة معنًى يعادل نزع الروح أو يفوقه، إذ دُمرّت –وتُدمَّر- ملكيات ملايين السوريين، وهي كل ما جنوه في حياتهم، وتُنزع ملكيات آخرين، ويطرد مالكون من أملاكهم؛ لتُمنحَ غصبًا إلى آخرين.

تصور أن تكون أنت صاحب ذلك العقار، أعددته ادخارًا لحياتك وحياة أولادك، ثم تُنتزع ملكيته منك، أو أنك مالك أرضٍ تعيش منها، ثم دفعوا لك واحدًا من عشرين، أو واحدًا من خمسين من ثمنها، بعد أن نزعوا ملكيتك مع ملكيات آخرين، وأنت تعلم أن الغاية ليست نفعًا عامًا، وإنما هي نفعٌ خاص، لصندوق الدولة على حساب صغار الملاك، ثم لصالح تجار العقارات الذين يشترون العقار من الدولة بأسعار متوسطة؛ ليقيموا عليها مباني، تُباع بأرباح كبيرة، ويقبض المحافظ ومساعدوه ومديروه رشًا كبيرة. كان هذا أحد أسباب انتفاضة السوريين 2011.

ما زلت أذكر لحظة وقوفي في سوق البلدة عند أحد الدكاكين، وقد تجمهرت بعض أبناء البلدة، يستمعون إلى قرارات التأميم تذاع من المذياع الذي يعدد أسماء الشركات التي أُممت وحُوّلت إلى ملكية حكومية -ملكية للسلطة- وكانت قد سبقتها قرارات مصادرة أملاك كبار ملاك الأرض وتوزيعها على الفلاحين على أنها حق انتفاع دائم وليس ملكية، إذ بقيت ملكيتها تعود للحكومة –للسلطة- وسُمي هذا النزع، يومئذٍ، “إصلاحًا زراعيًا”.

بجرة قلم نُزعت ملكيات كبيرة، آلاف أو عشرات آلاف الهيكتارات من الأراضي الزراعية، ونُزعت ملكية مئات الشركات الصناعية والخدمية والتجارية، وحُوّلت ملكياتها إلى السلطة، وبلمحة عين، لم تعد كل هذه الثروات لأصحابها السابقين؛ ووقف أصحابها حائرون، فالبارحة كانوا أسياد المدينة والسلطة والدولة، وكلمتهم مسموعة، والآن تؤخذ أملاكهم ولا يستطيعون فعل شيء. بينما، حتى يوم سابق، لم يكن أحد يتصور أن ثمة قوة يمكن أن تنال من قوتهم وهيبتهم، فهم السادة، ولكن سيادة هؤلاء السادة انتهت بجرة قلم، وبقرار أذاعه المذياع، بعد أن وقّعه شخصٌ، بات الآن رئيسًا “لمجلس قيادة الثورة”، بينما لم يكن له حتى الأمس أي قيمة.

ما يدعو إلى الاستغراب هو أن أصحاب تلك الملكيات المنزوعة لم يتجرؤوا على مقاومة قرارات “السلطة” بنزع ملكياتهم التي نزعت أرواح بعضهم، فلم يذهبوا ويجندوا أقرباءهم ورجالهم، ولم يحملوا السلاح ليمنعوا تنفيذ هذه القرارات التي صدرت عن سلطة انقلابية هشة.

رئيس المخفر الذي كان يأتمر بأمر هؤلاء السادة بات اليوم يطاردهم بأمر السلطة، وموظفو المحافظة أو موظفو وزارة الزراعة أو الاقتصاد أو الصناعة الذين طالما أطاعوهم ونفذوا رغباتهم، هم أنفسهم من دوّنوا محاضر نزع ملكياتهم. المحاكم التي كانت تمنع أي اعتداء على ملكياتهم هي من ثبتت قرارات نزع تلك الملكيات، وجهاز الدولة الذي كان بخدمتهم تحوّل، بجرة قلم -بالبلاغ رقم واحد- إلى جهاز قمع وجّه كل عنفه ضدهم.

لا أتحدث عن مدى شرعية أو عدالة هذه الخطوة من عدمها، فقد أمضيت ردحًا من عمري مؤيدًا لتلك القرارات “الثورية”، ولكن أتحدث عن السلطة الغامضة التي تنتقل إلى كل من يجلس على كرسي السلطة، شرعًا أو غصبًا، وأتحدث عن تغّول السلطة أي سلطة، وبالتالي تغّول سلطة نخبةٍ محددةٍ تتكون من أشخاصٍ من لحمٍ ودم، يمتلكون كل هذه السلطات، ويتحكمون بمصائر البشر.

قرارات السلطات وأفعالها التي تقع على رأس المواطن، في دول العالم كافة، أكثر من أن تُعدّ. جميعنا يذكر الفساد ويعرف الفاسدين، ولم يكن أحد قادرًا على الاحتجاج، وجميعنا كان يتجنب المحاكم؛ لأن القضاء الذي يصدر قراراته “باسم الشعب” قضاءُ فاسد، وجميعنا عانى من سياساتٍ اقتصاديةٍ رعناء، سببت الفقر للملايين، من دون أن يستطيع أحدٌ الاعتراض، جميعنا عانى من سلطاتٍ تقمع الحريات، وتعتقل وتقتل خبط عشواء، ولا أحد يملك حق الاحتجاج، ولا يوجد أي إمكان للمحاسبة.

الأمر المضحك المبكي أن السلطة تتخذ، باسم الشعب، جميعَ قراراتها الموجهة ضد الشعب، والشعب  يتلقى قراراتها باستسلام، كقضاء الله الذي لا راد لقضائه. ولا تختلف، في ذلك، سلطة انقلابية لا شرعية لها، عن سلطة منتخبة ديمقراطيًا، فالأخيرة ليست أقل سطوةً، فالشعب يذهب إلى صناديق الاقتراع مرةً واحدةً كل أربع أو خمس سنوات ليفوض سلطةً ما، تحت ضغوط لحظة معينة، ثم يجلس مجردًا من أي سلطة، بانتظار يوم آخر بعد أربع أو خمس سنوات أخرى، إذ يترك لهذه السلطة المنتخبة ديمقراطيًا، أن تفعل ما تشاء طوال تلك المدة، وتتخذ قرارات تمسّ حياةَ شعبٍ بأكمله، وتصادر ممتلكاته وتزيل طبقات وتحل طبقات أخرى محلها، وتغيّر أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية وتحالفات وتوجهات دولية، من دون أن تستشير أحدًا، سوى صراعاتها مع مراكز النفوذ القائمة. أليس ترامب هو مثال حي على ما أقول؟

يُقيض للسلطة كل هذه السلطة، لأن الأنظمة السياسية القائمة في العالم، تمنح -بدرجات متفاوتة- السلطات، وعلى مختلف المستويات، صلاحياتٍ واسعة تتأرجح بين المطلقة وشبه المطلقة، بينما تكون القدرة على المحاسبة بين معدومة ومحدودة. وتفويض الصلاحيات للسلطة يعني، في وجهه الآخر، تجريدَ الشعب من حق اتخاذ القرار، ووضعه في عهدة النخب الحاكمة، وبقدر ما يتخلى الشعب عن صلاحياته ويتجرد أو يجردونه منها، بقدر ما تصبح صلاحيات السلطة متضخمة متحولة إلى غول يبلعنا.

هل يكون الحل باستبدال النخبة الحاكمة؟

أبدًا؛ فهذا لا يبدل في الحال كثيرًا، إن بقيت آلية السلطة المركزية والصلاحيات نفسها، فالعيب في النظام الذي يتيح لمن يتسنم السلطة استغلالَها، فيديرها على هواه لحسابه الشخصي وحساب زبانيته، بلا حسيب أو رقيب.

النقطة الجوهرية تكمن في كمّية السلطات التي تتمركز في يد السلطة المركزية، ولا يعالج هذا الخلل بالرقابة، وإنما بتقليص الصلاحيات الممنوحة؛ إذ لا معنى لأن تشكل نظامًا قابلًا سوءَ الاستغلال، ثم تنشغل في مراقبته، والأصل أن تشكل نظامًا اجتماعيًا قابلًا للعمل لمصلحة الناس، مع حاجته إلى حد أدنى من الرقابة، وإذا كان لا بد من وجود سلطة، وتفويضها لإدارة المشتركات في حياة الجماعة/المجتمع، فلتكن سلطة لا مركزية قدر المستطاع، ولتكن السلطات التي تدير كثيرًا من شؤون حياة الناس، قريبة منهم، وتحت سيطرتهم، أي: سلطة الحي، أو سلطة المدينة، أو سلطة المنطقة، أو سلطة المحافظة.؛ هذا يعني أن تكون صلاحيات سلطات الأحياء كبيرة ما أمكن، وصلاحيات سلطات البلديات كبيرة ما أمكن، وكذلك المنطقة أو المحافظة. أي أن تهبط الصلاحيات من أعلى إلى الأدنى؛ لتقترب من الناس وتكون تحت أعينهم وسلطتهم.

مثلًا ما الداعي إلى أن تكون سجلات الأحوال المدنية والعقارات والملكية والمحاكم تخضع لسلطة المركز، وليس لسلطة المجموعة البشرية التي تحيط بها، وتقدم خدماتها لها؟ لماذا لا يكون مدير الناحية شخصية مدنية من أهل المنطقة، ويُنتخب انتخابًا حرًا، ويمكن عزله متى رأى منتخبوه ذلك، مع وجود آلية ملزمة للتقييم وتجديد التفويض كل نصف سنة، والأمر نفسه ينطبق على مدير المنطقة والمحافظ. ولماذا لا تخضع المشاريع الخدمية المحلية للسلطات المحلية؟ ولماذا لا يكون لكل منطقة برنامجها التنموي الذي يتغذى من إيرادات محلية، ويدار من قبل سلطة محلية منتخبة؟ ويكون للسلطة المحلية ميزانية أكبر بماردها ونفقاتها؟ ولماذا تخضع الشرطة للمركز البعيد ولا تخضع لسلطة المدينة أو الحي؟ وهذا لا يتعارض مع وحدة جهاز الأمن العام وترابطه وعمله وفق أنظمة موحدة، ولتسمِّ السلطة المحلية الموظفين المحليين وتحاسبهم وتعزلهم. وليكن النظام الديمقراطي هو السائد بالمطلق، وأن تكون قرارات محاسبة هذه السلطات من أهل الحي أو المدينة أو المحافظة.

ولكن ألا يُفسح نقلُ جزء كبير من السلطات، من مركز واحد قوي مسيطر إلى سلطات محلية بما تحمله المحليات من نزعات، نموَّ نزعات محلية تعزز المناطقية على حساب وحدة البلاد، خصوصًا مع بقاء هويات ما قبل المدنية قوية، ومع وجود فروق كبيرة في المناطق بين المذاهب والعشائر والإثنيات؟

الجواب نعم، لذلك نحن بحاجة إلى نظامٍ يحقق الجمع بين تنمية صلاحيات السلطات المحلية من دون أن يفسح في المجال أمام إضعاف الدولة أو نمو نزعات انفصالية أو نمو نزعات متطرفة في بعض المناطق.

هذا الأمر لا ينطبق على سورية فحسب، بل ينطبق على أي سلطة من السلطات القائمة في بلدان الجوار القريب أو بلدان بعيدة. فالسلطة غول يبلعنا أينما كنا في عالم اليوم، وكلما كان الغول ضخمًا، كانت قدرته على ابتلاعنا أكبر، فاجعلوه غولًا صغيرًا. واجعلوا الدولة نحيلة، وأنا أستعير -هنا- شعار الليبرالية الجديدة، ولكن لغاية مضادة لغاياتهم، فهم يريدون أن تكون الدولة نحيلة؛ كي يحل القطاع الخاص الرأسمالي الكبير محلها، وليكون هو الغول الذي يبلعنا بدلًا من الدولة، بينما نحتاج نحن إلى أن نجعل المجتمع، مجتمع العاملين بأجر، ومجتمع أصحاب الملكيات الصغيرة، ومجتمع الطبقات الوسطى، هو الغول الذي يبتلع السلطة وقطاع الأعمال الكبير، لتتقلص فروقات الثروة، ويصبح هرمها أكثر ميلًا إلى التسطّح منه إلى البروز، وأن تكون الديمقراطية ديمقراطيةً شاملةً، أي لا احتكار سياسي ولا احتكار اقتصادي ولا احتكار ثروة.

أما كيف يحدث هذا فهو موضوع مادة أخرى.

مقالات ذات صلة

إغلاق