سورية الآن

سلاف فواخرجي في مهمة “تعفيش” روسية بتدمر

لم تعد، على ما يبدو، مسألة القياس الأخلاقي أو الإبداعي تلجم جيلَ الفنانين الذين نهلوا من ثقافة الأسد ومزرعته المتخمة بكل أنواع الفساد، ولم يعد أحد يتفاجأ بخبرٍ هنا أو صفقةٍ هناك، تشير بمضمونها إلى ذلك الانهيار المستمر لمجموعة القيم الإنسانية والاجتماعية والثقافية.

في شهر نيسان/ أبريل يحتفل السوريون بذكرى الاستقلال، في حين تحتفل الفنانة السورية سلاف فواخرجي، في موسكو، بتوقيع عقد إنتاج فيلم سينمائي سوري- روسي مشترك، بعنوان “بالميرا” أو “تدمر” برعاية وزير الثقافة الروسي فلاديمير ميدينسكي، وبكلفة إنتاجية تُقدر بمليوني يورو.

عرّفت فواخرجي في صفحتها على “فيسبوك”، عن أحداث الفيلم الذي “يدور حول طبيب من داغستان، تتفكك حياته عندما تهرب زوجته وبناته سرًا إلى سورية، فيسارع إلى إنقاذهم من دون التفكير في العواقب”.

هكذا إذًا تظهر شهامة الغزاة في البحث عن الحب، بين ركام جثث ضحاياهم، جرأة إنسانية لا تهاب العواقب أو الصعوبات، تمامًا بتلك الصفة ذاتها دخل فلاديمير بوتين كـ “سوبر مان” لينقذ الأسد من سقوطه المدوي.

تحرص فواخرجي “على التعامل مع سينمائيين روس كبار” إذ يجمعها بهم هدف مشترك هو “صناعة فيلم يحكي عن الحرب السورية، وعن الاٍرهاب الذي لا وطن له ولا دين، وعن كل إنسان، عانى من الإرهاب والإجرام والعنف”.

يختبئ هؤلاء الفنانون وغيرهم، خلف الألفاظ الكبيرة، ويظنون أنها تستر عورات أفكارهم، أو أنها تغلّف حقائق التاريخ الذي تطاولوا عليه مع نظامهم وداعميه الروس والإيرانيين، وما جلبوه إلى السوريين من مرتزقة العالم بلكناتهم ولغاتهم التي تقدر بالعشرات.

تقول فواخرجي حول الفيلم إنه للبحث “عن بقايانا الإنسانية في وجوه من نحب، لندافع عن هذا الحب، وعن حقنا في الحياة، مؤمنين بأن السينما هي صناعة الجمال”.

من الواضح أن صناعة الجمال، بالنسبة إلى فواخرجي ومضيفيها الروس، موجودة في الصندوق الأسود الذي يجلس عليه الأسد وحاشيته في رحلتهم بين مجزرة وأختها، في طول البلاد وعرضها، فالجمال بالنسبة إليهم هو السطو على سيادة الأوطان وثقافتها، وبيع تراثها الخصب برزم دولارات. الجمال، عندهم، أن ترى القصفَ الكيمياوي، على الناس الآمنين في بيوتهم، لهوًا أو مشهدًا كوميديًا، كما يراه فنانٌ سوري آخر وعضو مجلس شعب سابق (أيمن زيدان)، إذ كتب في صفحته على “فيسبوك”، قبل أيام: “كيمياوي بالوطن ولا بارفان بالغربة”، ليكون كلامه دليلًا على مستوى الدرك الذي وصلت إليه الثقافة والوعي والإبداع الذي أحاط برجال النظام وفنانيه ومثقفيه ومريديه خلال عقود، فصاحب المسلسل الناقد “يوميات مدير عام” يفضّل، لأبناء بلده، الموتَ بالكيمياوي على تنسّم الحرية.

أثبتت كل التقارير الدولية أن هذا النظام وداعميه الروس ارتكبوا جرائم حرب ضد الإنسانية، ولأجل ذلك تحاول هذه الطغمة الحاكمة تشويهَ تلك الحقائق، وتجنيد كل ما تملكه في سبيل تجميل نفسها، فدأب رأس النظام على الكذب بعد كل جريمة، فعلى سبيل المثال هو ينفي استخدام السلاح الكيماوي، وفي الوقت نفسه يسلمه للأمم المتحدة، وينفي استخدام البراميل المتفجرة، وفي الوقت نفسه يرميها أمامَ كاميرات العالم وشاشاته، لتُدمّر معالم المدن السورية، ولتدفن السكان، وهم أحياء، تحت ركام منازلهم، وتستمر، من جانب آخر، تلك الجوقة المحيطة بالمجرم بالعزف على النغمة ذاتها.

لم يفت فواخرجي سابقًا أن تشكرَ إيران على ما فعلته من زرع للطائفية وتحطيم لبنى المجتمع السوري، ولم يتخطاها الواجب عندما أخذت تجول في بعض القطع العسكرية، برفقة فنان النظام الآخر والمحامي عن جرائمه (دريد لحام)، ليقدما للضباط والجنود الولاء، ويمتدحا عمليةَ إبادة شعبهم وحاضنتهم ومن رفع اسمهم.

تزوير التاريخ والحقائق بصور تلفزيونية، وبسيناريو يلمّع صفحة المجرمين، بخلفية قصة حبّ، تحتال على العواطف، لا يمكن أن يكون إلا إتمامًا لما بدأته آلة الروس الحربية، من دمار للمنشآت الحيوية، وملاحقة لأنفاس الأطفال في المشافي والأسواق بطائراتها.

وما قاله فلاديمير بوتين من أن ما يفعله هو تدريب مجاني لجيشه في لحم السوريين وممتلكاتهم، أو ما قاله وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، متباهيًا بقتل نحو 35 ألف سوري، ما أدى إلى إيقاف الربيع العربي، من المرجح أنهما سيبقيان عنوان مرحلة تاريخية، مهما حاول أصحاب حوانيت المكياج الفكري طمسها.

استغل النظام، طوال ست سنوات خلت، فقرَ الثورة بالأدوات التي تساعد أبناءها على التعبير عنها وعن شعبهم المكلوم، وعن ثقافة جديدة يجب أن تنبثق في هذه البلاد الغنية بكوادرها، وساعده وجود إعلام عربي وعالمي، تديره شبكة مصالح انتهازية، تدخل في شكليات الحالة وبطريقة مشوهة، من دون أن تمسّ عمق ما يجري، فتتراكم في النفوس الثقافة الفاسدة وتتلفها من الداخل. هي عبارة عن محاولات جادة لتأسيس تاريخٍ منعزلٍ عن الماضي، ووليد هجين لحاضر مريض، استفاد أيضًا من أشخاص ومؤسسات، أصبحوا ضمن إدارة الحركة الثقافية والإعلامية المحسوبة على المعارضة، بسقفٍ يلائم ما تعلمته في مدارس النظام من شروط للإبداع والتفكير والكلمة.

بالتأكيد، لا تحتاج مدينة تدمر العظيمة إلى أن يدافع أحد عن رمزيتها ومخزونها الإنساني، فتلك المدينة التي نهب آثارَها رفعت الأسد من قبلُ، وحرص النظام على أن يربط اسمها بسجنها الشهير الذي غدا رمزًا للموت والتعذيب، نجح أيضًا هذا النظام بعقد صفقته مع تنظيم “داعش” كي يدخل ويمحي ما استطاع من معالم تلك الجرائم المختلفة. لكن تدمر التي حملت اسم زنوبيا في رحم خلاياها تستطيع أن تلفظ الروس وعصاباتهم الفنية والعسكرية والثقافية، وكل هذا الغثّ الأسود الذي لوّث وجه البشرية.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق