هموم ثقافية

قوانين الحياة فوق الجميع

للشاعر الفرنسي النابغة “آرثر رامبو” عبارة شهيرة تمجد الحياة؛ إذ يقول:

“الحياة جميلة إني ابارك الحياة”

قد تكون هذه العبارة بدهية، فكل منا يحسها بعفوية مطلقة، تجاه مفردات الحياة الجميلة المتنوعة، في أشكالها وألوانها، وكثيرون يدفعون حياتهم دفاعًا عن التمتع بتلك المفردات التي لا تُعد، ولكن ألم يخطر ببالنا أن نسأل أنفسنا من أين تكتسب الحياة جمالياتها المرئية في ظواهرها المادية؟!

ما أراه أنَّ الحركة هي قانون الحياة الرئيس، وأساس وجودها، وسرُّ جمالها، فكل شيء في هذه الحياة في حركة دائمة مستمرة، حتى الأجسام التي تبدو لأنظارنا ثابتة، كالخشب والحجر والحديد، إنما لُبَّهَا متحرك على نحو ما، ولا أَدَلُّ على ذلك من أنه يجري تغييرها -أحيانًا- بتفاعلها مع مواد أخرى لتكون أكثر فاعلية، وفائدة، وبما يخدم حياة الناس. فمن الحديد يصنع الفولاذ، على سبيل المثال، وثمة علمٌ اليوم يبحث في هذه الأمور الدقيقة، ويأتي بمعجزات تخدم حياة الإنسان ورفاهه، في مجال الطب والفيزياء وتكنولوجيا المعلومات، وغير ذلك.. هذا العلم اسمه “تقنية النانو”.

والحركة تعني التغيُّر والتبدُّل والانتقال من حال إلى حال، وينطبق هذا المعيار على ما هو مادي وما هو معنوي؛ إذ لا فصل بين الاثنين، ولا حياة لكل منهما من دون الآخر، فلا حياة للروح دون جسدٍ يصونُها. وقد حار الأقدمون في تعريف الروح، والآية الكريمة عن الروح معروفة:

“وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا” (الإسراء الآية 85).

نعم إنَّ الحياة التي عاشها بنو الإنسان في القرنين الأخيرين تثبت، بما لا يدع مجالًا للشك، أنَّ الإنسان كان في زمن تلك الآية أميًا، أو شبه أميّ، وأن المنجزات العلمية الحديثة، والتكنولوجيا المعاصرة، تؤكد أنَّ كل شيء في هذه الحياة مطلق، لا حدود له وأن الظروف الموضوعية متجددة باستمرار، وهي تولّد أفكارًا جديدة ومختلفة تستند إلى ما قبلها، وترتقي بها، وغني عن الشرح القول: إنه لكل زمان أفكاره، ولكل مكان أقطابه ورواده، بل لكل ظروف، علاقاتها الاجتماعية المعينة، ولها -أيضًا- مفكروها وفلاسفتها. وأنا ممن يؤمنون بقوة الأفكار التي نشأت عبر التاريخ سواء كانت دينية أو فلسفية، أو أي فكرة أخرى أنتجها الإنسان عبر مسيرته التاريخية، وعبر نمِّوه، جسدًا وروحًا، عقلًا ووعيًا، بل إنني لا أشك أبدًا بحقائقها، وبمساهمتها في رفع شأن حياة الإنسان الذي عمل بها زمنًا، لكنها ظلت سائدة أزمانًا.. كما أن “المادة لا تفنى، ولا تستحدث؛ بل تتغير من شكل إلى شكل آخر، على حدّ تعبير العالم الفرنسي “أنطوان لافوازيه” وعلى ذلك، فإن الأفكار تبقى ولكنها تتحول وتتبدل، فإما أن يتفرع عنها أفكار أخرى تدفعها إلى الأمام، وإما أن تبقى طقوسًا وإشارات ورموزًا منفصلة -في الجوهر- عن واقع الحياة الذي يكون قد تجاوزها، كما ارتداء اللباس القديم الذي تجاوزته الحداثة، وما يعرف بالموضات المتتالية، فيطلقون عليه اللباس الشعبي. وبعضهم يعطي الأفكار، بعضَها، صفة القدسية كلما ازدادت عمقًا في الزمن. ولعلِّي كذلك أومن باستمرار تلك الأفكار، على نحو أو آخر، في بنية الإنسان الفكرية، فأنا لا أومن بالقطع التاريخي في مراحله المختلفة، ولعل علماء التاريخ أو الآثار يشيرون إلى هذا الأمر عندما يفتقدون حلقة ما من حلقات التطور..

ما أريد قوله في هذا المجال أن قوانين التطور تنطبق على الآداب والفنون أيضًا، ففي كل عصر يرتدي الأدب، على سبيل المثال، زيًا معينًا. وكثيرًا ما يطلق على هذا الزيّ اسم المذهب أو المدرسة، فيعيش زمنًا معززًا مبجلًا، ولكن، وعلى نحو مفاجئ، ترى الناس قد أخذوا يتذمرون منه إذ إنَّ الحياة، تكون، عبر حركتها المستمرة، وعلاقاتها المتشابكة، راحت تتطلب تحديث مفرداتها، في هذا الجانب أو ذاك، ويبدأ الرواد بتقديم نماذجهم بهذا الشكل أو ذاك، فإما أنْ يُستملح في البداية، أو يُستكره، وما إن يمضي عليه زمن، حتى يتعرف عليه الناس ويتعاملون معه؛ إلّا نفر منهم يظلون يحِنُّون إلى ما عهدوه وتآلفوا معه.. إنها لعبة الحياة المستمرة عبر نموِّها وارتقائها.

ولا بد أن أشير إلى التباين في فهم المذهب بين هذا الرائد أو ذاك لجهة تمثله، فغالبًا ما يخضع لمدى وعي الرائد وتمكنه من أدواته، ولمدى قوة روحه المتفاعلة مع الحياة ذاتها. فليس كل المبدعين على سوية واحدة، وليست أعمال المبدع كلها سواء، في حملها للقيم الجمالية نفسها، والمذهب بحد ذاته مفتوح غير مؤطر، إنما قد يؤطره هذا الناقد أو ذاك، وأحيانًا حين يتدخل السياسي لغايات ما، بل حين تحنط الأيديولوجيا الإبداعَ بالتضييق والمحاصرة تمامًا كما حدث لمذهب الواقعية الاشتراكية الذي صاغه الأديب الكبير مكسيم غوركي، وناله فيما بعد ما ناله، من ظلم في إطار معارك ضارية بين سياسيين طالت كل أوجه الحياة. وقد أودى التشدد والاختلاف بين غوركي ولينين إلى أن أرسل الثاني تهديدًا بالموت إن لم يكف عن انتقاداته للثورة، ووضعه ستالين تحت الإقامة الجبرية.

وإذا كان الاعتناء بالإنسان وشؤونه قيمةً جماليةً في الفن والأدب، فإن تعريف الواقعية الاشتراكية للأدب، هو علم الإنسان، لأن مادة الكاتب المبدع هي الإنسان، في أعماله وأفكاره وأحاسيسه ومشاعره، وكلّما تعمق الكاتب في حياة الناس لمس أفكار قرائه وأحاسيسهم، بل إن الإيمان بالإنسان، عند غوركي، بلغ حدّ شعوره أن الإنسان شمس تضيء في صدره، يقول من قصيدة له بعنوان الإنسان “إنّني، في ساعات التّعب الرّوحي، أستدعي الإنسان بقُوّة تصوراتي، الإنسان هو شمس تضيء في صدري، إنني أحترق لأضيء ظلام الحياة..”

لم ينزع غوركي الثقة من الواقع كما وقف بحزم ضد تحقير الإنسان وشتمه، وهو أسلوب شاع في أدب الربع الأول من القرن العشرين، ويعلن موقفه ذاك بقوله: “الإنسان ليس مخلوقًا حقيرًا، كما يصوره المجتمع الطبقي، الإنسان هو المعجزة الوحيدة على الأرض، وكل المعجزات هي نتاج إبداعه وإرادته وعقله وخياله”، ويقول أيضًا: “خلال حياتي كلها، لم أرَ الناس إلا أبطالًا حقيقيين، الناس الذين يحبون ويستطيعون العمل، يضعون نُصب أعينهم هدف إطلاق قوى الإنسان كلها، من أجل الإبداع، من أجل تنظيم الحياة بشكل يليق بالإنسان” (موقع زهلول)

أعود لأقول إن الحياة هي الأقوى، وهي المتجددة باستمرار. ويبقى الإنسان غاية الحياة ومبتغاها فهو من يعطيها معناها ويبقى الأدب يخوض غمار هذا المجال لا غير.

مقالات ذات صلة

إغلاق