“أحيانًا أفكر بأن المسرح يجب أن يكون قاسيًا لدرجةِ أن نذهب إلى بيتِ أمٍّ أرسلتْ ابنها إلى الجيش، ونمثل أمامها مشهد استقبالها لنعشِه قبل أن يُقتل…!”.
قالها المخرج لممدوح، وقد نفد صبره، في انتظار خروج “رواد” من المعتقل، بعد ثلاث سنوات على غيابه. ذلك الشاب الذي حاز جائزة أفضل ممثل في عدة مهرجانات مسرحية سابقة. فكرة “انتظار غودو” باتت تجعله قلقًا أكثر فأكثر، كلما مضى الوقت: “ماذا لو مات رواد في سجنه؟ هل أموت معه؟ هل يموت مسرحنا البسيط؟” أسئلة كثيرة كانت تفتح بوابات القلق في رأسه بلا استئذان؛ لذلك قرر الخوض بما تبقى من فرقته المسرحية التي هاجر معظم أفرادها إلى أوروبا، بسبب الأوضاع التي تعصف بالبلاد.
لم يصدق “ممدوح” أن الدور الرئيس في المسرحية الجديدة قد أُسندَ إليه، عندما اتصلَ به المخرج، وأخبره بأنه سيؤدي دور “توماس” في مسرحية “عدو الشعب” للكاتب النرويجي “هنريك إبسن”. كان ذلك -بالنسبة إليه- يشبه العثورِ على كنزٍ لا يقدر بثمن، ففي الأعمال السابقة، اقتصرت مهماته على أدوار ثانوية، حاله كحال أي ممثل هاوٍ، لا يملك الخبرة الكافية.
بدا الأمر وكأن الحياة عادتْ إلى جسدِ الفرقة من جديد، وانطلقت أولى “بروفات الطاولة”، لكن “ممدوح” فاجأ الجميع بأدائه الرديء، لم يتوقع المخرج أن يكون أداؤه مخيّبًا إلى هذه الدرجة، على الرغم من علمه بمقدراته! “سرور” -الممثلة اليتيمة في الفرقة- لم تكن أحسن حالًا من زميلها، ومع ذلك أصرّ المخرج على ألا يتسرب اليأس إليه أبدًا، وحاول معهما مجددًا. بدأ بتدريبهما تدريبًا خاصًا وحدهما، ومع ذلك لم تكن النتائج على ما يرام أبدًا.
مع بدء بروفات الخشبة ظهر ممدوح هزيلًا غير قادر على التحكم بنفسه، لا يتقن خلق التفاصيل في ملامح دورهِ، وبدت “سرور” متصنعة لا تعرف أن تلبس شخصية غير شخصيتها الحقيقية. وفي اجتماع طارئ لكل أفراد الفرقة، أعلن المخرج عن توقف البروفات، إلى أن يجد حلًا، فهو لا يستطيع أن يكمل العمل بهذه الطريقة. فكر أن يكتب نصًا مسرحيًا عن ممثلين لا يجيدون التمثيل، لكن الظروف دفعتهم إلى لعب أدوار البطولة، عسى أن تستر هذه الفكرة كثيرًا من عيوب الأداء، مثلما حدث مع شبّان لا يعرفون من البندقية إلا شكلها، ولكنهم وجدوا أنفسهم بلمحة بصرٍ على جبهات القتال، ثم عُلّقت صورهم في منازلهم مع شرائط سوداء فوق زواياها، وأصبحوا “أبطالًا”.
وضع المخرج نصّ “عدو الشعب” على الرفّ، وبدأ بكتابة أفكاره مستخلصًا إياها من إقحام الممثلين في ورشة مسرحية:
- ماذا لو كان الناس في حياتهم اليومية فاشلين في تجسيد أدوارهم الحقيقية؟ ما رأيكم أن نراقب تصرفات الناس العاديين وانفعالاتهم؛ وكأننا نتفرج على مشاهدَ من مسرحية كبيرة؟ هل نستطيع أن نتدخل في الحدث الواقعي؟ هل سنؤثر فيه؟ ماذا لو اقتنع كل البشر أنهم مجرد ممثلين لا غير؟ وأن الواقع الذي يعيشونه ليس واقعًا، وإنما هو محاكاةٌ لواقعٍ يبحثون عنه، وربما يكون غير موجود أصلًا؟ هل يمكننا أن نتنبأ بمصاير البسطاء، فنجسّدها أمامهم قبل حدوثها؟ لماذا لا يتلقى المتفرج في صالة العرض، صفعةً حقيقيةً من أحد الممثلين مثلًا!؟ أو قبلة من ممثلة!؟ هل يستطيع الإنسان أن يلعب دور المشاهد في حياته، من دون أن تمسه مجرياتها بشكل مباشر؟
بعد أيام قليلة اتصل المخرج بالممثلين، وطلب منهم الحضور فورًا، ثم توجهوا إلى المقبرة، حيث كانت إحدى الأمهات تبكي على قبر ابنها القتيل، راقب الجميع تلك المرأة بصمت، قال المخرج:
- انظروا إليها، هي لا تحفظ ما تقوله مسبقًا، الكلام يَسْريْ على لسانِها بلا أي تلكؤٍ أو تلعثم. ثقوا تمامًا أن لا أهمية تُذكر لكل كلماتها لو أنها لم تحرك جسدها بطريقة تحاكي مهنة حفار القبور، تصرخ، تحفر الأرض بأظافرها، تنحني بجذعها، وتستقيم، كما لو كانت تصلي، تغني لابنها غير مبالية بأي أحد، هي لا ترانا، ولا تشعر بنا، وكأنها الوحيدة الباقية على سطح هذا الكوكب.
- هل هي ممثلة جيدة؟ هل أتقنت دورها؟ اذهبوا وابكوا معها.
سجل الممثلون مشاهداتهم، وعندما عادوا إلى بيت المخرج، قرأ كل واحد منهم ملاحظاته، واتفقت الآراء على أن المشهدَ كان متقنًا باحترافية عالية، على مستوى النص والحركة والديكور والملابس وحتى الإضاءة، وأشادوا بالحالة التصاعدية للمشهد وبخاصة بعد أن صرخت “سرور” في وجه الأم قائلة: “افرحي.. ابنك شهيد.. زغردي للعريس”، فكان لهذه الكلمات وقع جنوني على الأم التي صارت تغني وتزغرد وتبكي؛ كما لو كانت عرسًا كاملًا وحدها.
في المرة التالية، قرروا موعد الجلسة مع سماعهم لصوت تفجير سيارة مفخخة، وكان مكان الورشة في مستشفى المدينة، قال لهم المخرج:
- “لا تنسوا.. نحن في المسرح، إياكم أن تفكروا في غير ذلك، كل ما يجري أمامكم سينتهي بتصفيق الجمهور، ثم يعود كل شيء كما كان سابقًا”.
وهناك شاهدوا الممثلين في ذروة أدائهم، الجرحى يطلقون أصواتًا غريبة ومخيفة، الممثلون الأطباء أشعلوا المشهد بسرعة الحركة، الممثلات الممرضات أيضًا؛ حتى الكومبارس من أهالي القتلى والجرحى قدموا أدوارًا متميزة. قال المخرج:
- “مروان” لعب دور الجريحٍ الذي أسعفَ العديد من المصابين قبل أن يسقط ميتًا، برأيي كان جيدًا، ولكن “سرور” قدمت دورًا صعبًا، امرأة مجنونة تقول لبعض الأطباء إنها وجدتْ مِن بين المصابين مَن يتبرع لها بروحِهِ، وهو مروان نفسه، وتَطلبُ منهم أن يأخذوها بسرعة مع المتبرع، إلى غرفة العمليات، لزرع روحه في جسدها المهجور قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وسط حيرة ودهشة الأطباء.
شاهَدَوا وشاهَدَوا، لكن حماسهم الكبير لهذه الورشة بدأ يخبو شيئًا فشيئًا، مذ قررت “سرور” أن تلعب دور المهاجرة غير الشرعية.
تناقص عدد الممثلين واحدًا تلو الآخر؛ حتى انفضّوا جميعًا من الورشة وصاحبها، ولم يجتمعوا ثانية إلا بعد عدة أشهر، في تلك المقبرة، المخرجُ نفسه مَن جمَعَهم، بعد أن قُتِل بطلق ناري في الرأس، غير معروف المصدر. شاءتْ المصادفة يومئذٍ أن يحضر “رواد” جنازة صديقه القديم، بعد أن أُطلق سراحه، قبلَ يومٍ واحدٍ فقط من اغتياله. لم يكن يتوقع أن يتحرر من سجنه ليسدل الستار ترابًا على جثمانِ المخرج الذي شاركه الكثيرَ من الذكريات على خشبة المسرح وخارجها، ولم يكن يتوقع أن يسمعَ “ممدوح” وهو يقول لمجموعة من الشبان اليافعين، على مقربةٍ من القبرِ الطريّ: “لا تنسوا.. نحن في المسرح، إياكم أن تفكروا في غير ذلك، كل ما يجري أمامكم سينتهي بتصفيق الجمهور، ثم يعود كل شيء كما كان سابقًا”.
في ذلك المكان الكئيب، سَمِعَ رواد العبارة ذاتها، بأصوات مختلفة، وبعد انتهاء مراسم الدفن غَرَزَ قدميه في التربة التي غطّتْ صديقَه الممددّ في عمق مترٍ ونصفْ، وبدأ بالتصفيق، تصفيق حار، تصفيق متواصل مع ابتسامة عريضة، استمر في التصفيق حتى انحنى له كل من كان في المقبرة، وغادروا تباعًا… انفضّوا عن تلك الخشبة التعيسة التي يرقد تحتها ذلك المخرج الحالم.