مقالات الرأي

صراعات إخوة المنهج ضيّعت الثورة السورية

أضرت الجماعات العسكرية التي حسبت نفسها على الثورة السورية، منذ نشوئها، بمجتمع السوريين وبثورتهم، كما أضرت بصدقية كفاحهم من أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية التي انطلقت من أجلها الثورة السورية، في آذار/ مارس 2011.

وما يفترض إدراكه هنا، والتركيز عليه، هو أن هذه الجماعات لم تنشأ نتيجة حراكات داخل التيارات الإسلامية التي كانت تعمل في سورية، سواء تعلق الأمر بالإخوان المسلمين أو بالجماعات الصوفية أو الدعوية، كما أنها لم تأت نتيجة تطور طبيعي في تصعد المواجهات العسكرية مع النظام؛ إذ إن هذه الجماعات نشأت، وصعدت، بفضل الدعم الخارجي، وفي ظل فراغ سياسي ناجم عن حرمان السوريين من السياسة، وضعف القدرة على توليد كيان وطني ديمقراطي.

هذا يفيد أيضًا بأن الحمولات الفكرية الإسلامية في هذه الجماعات ضعيفة؛ إذ لم نشهد لها إسهامات فكرية، طوال السنوات الماضية، والأهم من ذلك أنها فرضت ذاتها بفضل قوتها العسكرية الناجمة عن الدعم المالي والتسليحي والسياسي الذي مُنح لها من بعض الدول العربية والإقليمية التي رأت في دعم هذه الجماعات فرصةً للتحكم بمسارات الثورة السورية، والحد من تأثيراتها الخارجية، وأيضًا لتوظيف هذه الورقة في تعزيز نفوذها الإقليمي.

الحديث هنا لا يتعلق بتنظيم “داعش”، فحسب، فهذا يحسب على الثورة المضادة، كما لا يقتصر على “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام) أيضًا، فهذه لم تحسب نفسها يومًا ضمن ثورة السوريين، ولم تعترف يومًا بمقاصدها، وهي أجندة تفيض على سورية بحكم تابعيتها لتنظيم القاعدة، وإنما الحديث هنا عن فصائل مثل “جيش الإسلام”، وأحرار الشام، وفيلق الرحمن، وغير ذلك من الفصائل التي تغطّت بالإسلام، واستخدمت القوة لفرض ذاتها، وتكريس خطاباتها، على مجتمع السوريين وعلى ثورتهم.

لنلاحظ أن هذه الجماعات التي قوضت إجماعات السوريين، بإضفائها بعد ديني وطائفي على الثورة، قدمت خدمة كبيرة للنظام بترويجها ادعاءاتها عن أن هذه ليست ثورة السوريين، ولا ثورة وطنية ديمقراطية، وإنما هي مجرد حركة دينية وطائفية، وترتبط بالإرهاب.

وبصراحة، فإن هذه الجماعات لم تنجح على أي صعيد، حتى على صعيد خطاباتها التي بدت متزمتة ومتشددة وغريبة عن الإسلام الشعبي، الوسطي، المعتدل والمرن، للسوريين، ولم تنجح في إدارتها للمناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، أي المناطق المحررة، لأنها أدارتْها بطريقة تسلطية وعشوائية ومصلحية، كما لم تنجح في صوغ استراتيجية عسكرية لمواجهة النظام، باعتمادها طريقة احتلال أو تحرير مناطق، من دون أن يكون لديها القدرة على حمايتها، أو تأمين المواد الضرورية لها، أو حتى إدارتها بطريقة ناجعة، تجعل منها نموذجًا لسورية المستقبل. وبالنتيجة فإن المناطق المحررة بدت مناطقَ محاصرة تفتقد للمواد الأولية للعيش، وحقلَ رماية لصواريخ النظام وبراميله المتفجرة، وبيئات يهجرها قاطنيها، أو طاردة لسكانها؛ ما ولّد مشكلة اللاجئين السوريين.

الأنكى من كل ذلك أن هذه الفصائل، على فشلها في كل المستويات المذكورة، وفي هيمنتها على الثورة، على مساراتها وخطاباتها وأشكال عملها، دخلت في صراعات دامية ومدمرة في ما بينها، أي أنها أسهمت في زيادة الفجوة بينها وبين مجتمعها، إذ بات ثمة إسلاميون يقتلون إسلاميين، فكل جماعة تعتقد أنها تحتكر الحقيقة، وأنها هي الوصية على الدين والدنيا، وولية أمر المسلمين. وبديهي أن لا علاقة للإسلام بهذه الصراعات التي هي بمنزلة صراع على السلطة والمكانة والنفوذ من جهة، وجزء من صراعات الأطراف الخارجية على النفوذ في سورية المستقبل.

بالنتيجة، وكما حصل في مختلف مناطق سورية، في المناطق المحررة، وكما حصل في حلب أواخر العام الماضي، وكما يحصل اليوم في دوما والغوطة، فإن اقتتال هذه الجماعات يدمر ما تبقى من فكرة الثورة السورية النبيلة والمشروعة، ويفاقم ما يعانيه مجتمع السوريين في تلك المناطق، ويقدمها لقمة سائغة للنظام، في وقت يعيش فيه واحدة من أصعب لحظاته الدولية والإقليمية، ولا سيّما مع بدء العدّ العكسي لتحجيم إيران، ومع القرار ببدء التحول نحو حلّ انتقالي فعلي في سورية.

هكذا يقتتل من حسبوا أنفسهم يومًا “إخوة المنهج”، وظنوا أنهم تمكنوا من فرض ذاتهم على سورية وعلى مجتمع السوريين، في حين أنهم أسهموا في خدمة النظام، وفي الإضرار بسورية وبمجتمعها وبثورتها، وبالتيارات الإسلامية المدنية المعتدلة أيضًا.

طبعًا، تتحمل القوى الوطنية والديمقراطية مسؤولية كبيرة في وصول الحال إلى هذا الدرك، أولًا، بمحاباتها هذه الجماعات، بدل نقدها وترشيدها أو الحد من تأثيراتها. وثانيًا، بالسكوت عن كونها تمثل انشقاقًا في الثورة السورية، بتحويلها من الخطاب الوطني الديمقراطي إلى الخطاب الديني الطائفي. وثالثًا، بعدم فضح ارتهانها للأطراف الخارجية. ورابعًا، بعدم تشكيلها البديل المناسب، في إقامة كيان أو كيانات وطنية فاعلة تمثل الثورة السورية حق التمثيل.

مقالات ذات صلة

إغلاق