مذ تحولت مسارات الثورة السورية، من مسارها المتقدم في تحقيق دولتها الوطنية واستردادها شرعية وجودها السياسي كدولة كاملة الاستقلال والسيادة على مساحة أرض ووطن، إلى مسارات في الحلول السياسية المفترضة أو الحلول العسكرية الموهومة، تراجعت معها مفاهيم ورؤى المشروع الوطني المفترض الذي ضحى من أجله ملايين المهجرين ومئات الألوف من المعتقلين والقتلى! المعتقلين الذين بات الجميع ينساهم في مؤتمراتهم ومقرراتهم ولقاءاتهم، سواء كانت ديمقراطية أو في شبهة الحلول الجيوسياسية، كما يحدث الآن في أستانا!
خرج مؤتمر أستانا في 4 أيار/ مايو 2017 بورقة تفاهم حول وقف إطلاق النار، ذُيّلت بتوقيع روسيا وتركيا وإيران، نيابةً عن النظام والمعارضة، بوصفها دولًا ضامنة لاتفاق ما سمّته روسيا مناطق “وقف التصعيد” أو “خفض التوتر” وتسميه المعارضة، تبعًا لما كانت تقترحه أميركا بالمناطق الآمنة. نص الاتفاق في بنوده الرئيسة على إيجاد أربع مناطق، لوقف التصعيد العسكري من أجل وضع نهاية فورية للعنف، وتأمين الظروف لعودة اللاجئين الطوعية، وتحسين الوضع الإنساني وخلق ظروف مواتية لتحقيق تقدم في التوصل إلى حل سياسي “لـلنزاع” في سورية، وهي: منطقة إدلب وبعضٌ من المناطق الريفية المجاورة في (اللاذقية وحماة وحلب)، أجزاء معينة في شمال ريف حمص، ومنطقة في الغوطة الشرقية، وأجزاء معينة في الجنوب في (درعا والقنيطرة). وأشارت مذكرة التفاهم تلك على وقف الأعمال العدائية بين طرفي النزاع السوري (النظام والمعارضة) ووقف استخدام أي نوع من السلاح، بما فيها سلاح الطيران، وتأمين فوري لدخول المساعدات الإنسانية إليها وإنشاء نقاط مراقبة وتفتيش، على أن يُعمَل بهذا الاتفاق مدة ستة أشهر تمدد تلقائيًا بموافقة الأطراف الضامنة مجتمعة.
كان يمكن لهذا الاتفاق أن يكون عرسًا سوريًا بكل زهوته، فطالما انتظر السوريون وقف القتل والتهجير في مدنهم وقراهم، وطالما ترقبت أعينهم بفزعٍ الحملات المجنونة التي يشنها سلاح الطيران الروسي والسوري على المدن السورية المحاصرة، ومن خلفها تزحف القوى البرية العسكرية المختلطة للنظام والميليشيات المجندة إيرانيًا تقضم الأرض والمدن، وطالما كان التغيير الديموغرافي عنوان المرحلة السابقة، فهل وصلت أستانا إلى هذا العرس الفعلي؟ وهل ستحتفل هذه المناطق، وكل سورية، بعودة الأمن والأمان كما يرغب كل السوريين؟
بالعودة إلى خلفية المشهد، ومنذ اتفقت كل من روسيا وتركيا على مبادلة عسكرية، مفادها حلب مقابل الباب، وقد سعى كلا الطرفين معًا لتمرير قرار لوقف إطلاق النار، اعتُمد في مجلس الأمن نهاية العام السابق تحت القرار 2336/ 2016، ومع هذا لم تتوقف العمليات العسكرية خاصة في المناطق المذكورة في نص الاتفاق، ليتبع ذلك لقاءات عدة في أستانا، توجت بفشل سياسي واضح في لقاءات جنيف 4 و5 في الشهرين الفائتين. والواضح اليوم أن روسيا حصريًا قد سعت بكل جهدها لتحقق من خلال أستانا عدة أغراض برمية واحدة مفادها:
- جديتها بجعل معركة حلب معركة آخر معاركها العسكرية الفعلية المتوجة بنصر باهت، تفاوض من خلاله سياسيًا في جنيف كحصيلة سياسية لها، تُعدّ ذات موقع دولي تشارك الولايات المتحدة الأميركية فيه.
- تثبّت مصالحها السياسية بحلولها العسكرية من دون أن تتورط بإدخال قوى عسكرية برية لها، فمن جهة تضمن عدم تمدد القوى الإيرانية على الأرض في مناطق سيطرتها، ومن جهة أخرى تكتفي شر قوى المعارضة السورية، باتفاق ملزم مع تركيا في هذا الجانب.
- تدخل على خط محاربة الإرهاب سواء (داعش) أو هيئة تحرير الشام (النصرة) في موازاة التحالف الدولي التي تقوده أميركا، النقطة التي رُفضت مرارًا وتكرارًا من البنتاغون الأميركي، وهذا ما أشارت له بوضوح مذكرة أستانا في بندها الخامس المتعلق بتجهيز كافة الإجراءات اللازمة لذلك.
- تستبق المشروع الأميركي بإقامة مناطق آمنة في سورية كما صرح ترامب، وأدركت روسيا جيدًا جديته، فلم تمضِ مدة على اتفاق الهدنة المزعوم أواخر عام 2016 حتى أتت الضربة العسكرية الأميركية لمطار الشعيرات على خلفية استخدام الأسلحة الكيماوية في مدينة خان شيخون، وإعلان ترامب عن إقامة مناطق آمنة في سورية برعاية أميركية، لتسارع الدبلوماسية الروسية إلى فهم الرسالة جيدًا، وتسعى بكل ما أوتيت من ديناميكية معهودة لاستباق المشروع بمشروع بديل، يظهر للوهلة الأولى أنه عرس سوري لوقف القتل، لكنه في مضامينه وخلفياته وتاريخيه لا يشي إلى اليوم بقدرته على الاستمرار، فمع أن المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الأميركية، هيذر نورت، رحّبت بداية ببنود الاتفاق خاصة في ما يتعلق بعودة اللاجئين ووقف الأعمال القتالية ومحاربة (داعش) و(النصرة)، إلا أنها أشارت إلى قلقها من وجود إيران دولة ضامنة للاتفاق، معلنة بوضوح أنها، أي أميركا، لم تكن شريكًا في هذا الاتفاق بقدر مراقبتها له عبر القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية ستيوارت جونز. ومن جانب آخر لم تكن أبدًا أحلام السوريين تقف عند حدود مناطق آمنة قابلة لتحقيق سياسة الحلول الجيوسياسية التي يتقنها الروس، تلك الحلول القائمة على نظرية الحل السياسي الممكن والوحيد بعد تحقيق شروط تفوق عمل عسكري، كما أن منطقتي الغوطة وشمال حمص تعدّان شبه محاصرتين، ويسهل اختراقهما بمرور الزمن. ومن جانب آخر تدرك روسيا جيدًا أن تفوقها العسكري سيصطدم بجدار الجدية الأميركية في فرض المناطق الآمنة فعليًا من جهة، وبجدار التفوق البري الإيراني على أرض الواقع؛ ما أوقعها في شرك التدابير الآنية السياسية والدينامية السريعة بتعويض ذلك في فرض موقعة أستانا تمهيدًا لجنيف دولي ملزم كما تحب هي وترغب.
السوريون، وعلى حدة تناقضهم بين ضرورة وقف القتل والدمار والتهجير، وبين تحقيق شروط الانتقال السياسي لهيئة حكم كاملة الصلاحيات، يمرون اليوم بتجربة قاسية على صعيد الشعور والترقب والتخوف من غموض بنود أستانا ودهاء الروس خلفه، وإن كان تعبير الهيئة العليا للتفاوض لا يرتقي إلى مستوى رؤية سياسية محددة بعد، إلا أن السوريين سيرحبون بكل ما لديهم بوقف القتل والتهجير، ولكن على أطياف المعارضة السورية ألا تكتفي عند هذا الحد فحسب بل أن تبقى المصلحة السورية ودولة المواطنة والتمسك بالانتقال السياسي على أنه الشرط الضامن لوقف الإرهاب والقتل كلية، وربما يجب العودة بالتاريخ لقراءة تجربة “هوشي مينه” الفيتنامية في هذا السياق، حين رفض سيادته على بقعة من الأرض متمسكًا بوحدة فيتنام كلية على الرغم من التفوق الأميركي الجوي وقتئذ في مشابهة تاريخية قائمة اليوم.
ربما لم نستطع إلى اليوم تحقيق الدولة الوطنية بعد، وربما تكون أستانا اليوم طريقًا نحو التقسيم، وربما نصبح هويات متعددة! ربما تحتاج الثورة إلى ثورات متتالية وزمن جديد من التحديات، لكن اليقين الأكيد أن الثورة اجتاحت كل نفوسنا، عرتنا أمام حقيقتنا وإمكانياتنا أمام الاستبداد الساكن في عقولنا ونفوسنا وثقافتنا، الأهم من هذا أنها أطلقت إمكانات وطاقات السوريين في كل اتجاه، إنها لحظة الحد والمفارقة باتجاه فضاء حر مهما كانت عقباته وعراقيله، ومهما كانت قدرة الروس والإيرانيين على استباق الحدث، ومهما اختلت موازين القوة الحالية، فإن زمن الإيمان بقدرة السوري وصبره لا ينتهي. إنه عصر السوري بكل تأكيد، والسوري اليوم عين الحدث العالمي وبؤرة توازنه، والكل يدرك أن لا حل يمكن أن يمر بها جزافًا فقد باتت التجربة السورية أكثر عمقًا وأكثر وعيًا وإن كانت الإمكانات أقل بكثير من طموحاته، وأبدًا لن تكون الحلول الجيوسياسية، وسياسة الأمر الواقع، هذه عرسًا مكللًا بالسواد، يرضي تضحياتهم الجسام ولن تكون بديلًا عن عرسهم الوطني في دولة المواطنة والحريات، وإن طال زمن تحققها.