أتى الطرح الروسي الأخير بنشر قوات فصل دولية مفاجئًا للبعض، بل للكثيرين، وظن البعض أن هذه الخطوة ستكون بدايةً للحل، لكن لمعرفة ماهية هذه الخطوة يجب أن نجد إجابات منطقية لبعض الأسئلة.
– هل تريد روسيا فعلًا السعي في حل جاد في سورية؟
– هل تريد حماية المدنيين من القتل؟
– هل تريد حماية النظام في مناطق تواجده والاكتفاء بها في المرحلة الحالية؟
– هل بادرت روسيا إلى تدويل المشكلة بدلًا من مواجهتها منفردة مع أميركا التي تُحضّر لتدخّل وشيك قد بدأ فعلًا في الشمال؟
الإجابة، على الأسئلة الأربعة أعلاه، ربما تعطينا مؤشرًا لفهم الطرح الروسي الجديد وأهدافه، وبالتالي توقع الخطوة المقبلة.
بالنسبة إلى السؤال الأول؛ الحل الوحيد الذي يُرضي روسيا هو بقاء النظام كاملًا، بدءًا من رأسه وانتهاءً بأصغر مستخدم في دائرة حكومية في أقصى شمال وجنوب سورية وما بينهما، فروسيا تُدرك جيدًا أن أي مساس برأس النظام يعني انهيارًا كاملًا للمنظومة الحاكمة وزوالها إلى الأبد، وهذا ما تتحاشاه، ولم يترك السوريون وسيلةً أو طريقًا إلى الروس إلا وحاولوا السير فيه، وصولًا إلى حل؛ إلا أن الروس كانوا يوصدون الأبواب جميعها، وقبل نشوء أي حراك مسلح ذهب إلى موسكو كثيرٌ من الشخصيات الوطنية المعارضة السلمية (غير الإسلامية والمتأسلمة) وقوبلوا بباب مغلق، ثم حاول الشيخ معاذ الخطيب بدعم عربي، وذهب إلى موسكو، فلم يجد سوى الوعود المعسولة، وذهبت هيئة التنسيق فعادت خالية الوفاض، وكذلك ذهب العميد مصطفى الشيخ؛ فكان ضحيةً لكذب القيادة الروسية، حيث استخفوا به وجعلوه يخرج على الشاشات مُبشّرًا بدور روسي إيجابي، وأصبح الرجل مصدر تندر للجميع. وحسب النظرية الروسية، فإن الروس لا يواجهون الشعب السوري فحسب، بل نقلوا كافة الملفات الخلافية مع الغرب وأميركا إلى الأرض السورية، حيث قدّمت المملكة السعودية ضمانات كبيرة لروسيا، لم تجعلها تتحرك خطوة واحدة تجاه الحل.
أما بالنسبة للسؤال الثاني؛ فلا تختلف روسيا عن النظام السوري بشيء، من حيث النظرة للمناطق الثائرة، ومن حيث مفهوم “البيئة الحاضنة”، ولها تجربة واسعة في الشيشان، فهي لم -ولن- تتورع عن قصف أي مدينة أو قرية أو حتى مزرعة صغيرة، تُشكل بيئة حاضنة للثورة، وشاهدنا كيف تعمّد الروس إنهاك المدن الثائرة، بقصفهم للمنشآت الحيوية (أفران – مشافي – أسواق شعبية – أحياء سكنية) بشتى أنواع القذائف، وخاصةً الصواريخ الارتجاجية، ومن ناحية أخرى وقفت روسيا تنظر إلى تهجير المدن المُنظّم والممنهج من طرف النظام وإيران، لأن ذلك يصب في خانة الهدف الروسي مباشرة، إذًا فحماية المدنيين ليست هدفًا روسيًا بالتأكيد، وهي إن اضطرّت فستُحمّل النظام مسؤولية كل المجازر، وتمسح يدها من دماء السوريين برداء الولي الفقيه في إيران.
وبالنسبة للسؤل الثالث؛ لا شكّ أن حرب الروس في سورية قد طالت، فكانت تقديراتهم تتراوح بين ثلاث أشهر وستة، ولم يكن في حساباتهم أن تمتد إلى عامين، وبات الحليف الإيراني أيضًا عاجزًا عن الدفع، فالحسابات الإيرانية كانت مبنية على رفع الحصار الغربي – الأميركي، وعودة الحياة للاقتصاد الإيراني الذي دخل غرفة الإنعاش قبل الاتفاق النووي، إلا أن هذا الحصار لم يُرفع بشكل كلي، وزاد عليه تدهور أسعار النفط، وتهالك المعدات النفطية الإيرانية، فاعتمدت إيران في تمويل حربها السورية على ما تسرقه من أموال الشعب العراقي، ومن النفط العراقي من البصرة، وهذه السرقات باتت أصعب، بعد عودة الأميركيين إلى العراق، لهذا وجدت روسيا نفسها في مواجهة الإفلاس، وتحولت معركتها المؤقتة إلى حرب مفتوحة في بيئة معادية بالمطلق، ومع حليفٍ لا ترتاح كليةً لأهدافه، خاصة بعد أن طالب الروس بشراكة كاملة؛ لهذا كان خيار قوات الفصل حيث يكتفي الطرفان بأماكن تواجدهم الحالية، حيث البيئة الاجتماعية أقل عداءً لهما؛ مما سيخفف من خسائرهما المادية والبشرية، ويمنحهما وقتًا أطول في التواجد المريح نسبيًا في انتظار قضم المناطق المعارضة بمصالحات محليه تدريجيًا، وصولًا إلى استعادة النظام لكافة الجغرافيا السورية.
أما السؤال الرابع؛ فنلاحظ أنه بعد وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السلطة، لم تكن أميركا على عجلة من أمرها، وظلت تأخذ الوقت الطويل لدراسة خياراتها، وتتبع سياسة منضبطة وتدريجية في تعاملها مع الملف السوري، ولا تُحاول المواجهة المباشرة مع روسيا، وأخذت خيار مواجهة إيران، وهذا ما سوف يؤدي إلى سحب البساط الفارسي من تحت أقدام الروس، مع تواجدها التدريجي شمال وجنوب سورية، وسيجد الروس أنفسهم في الوسط فيما يشبه أفغانستان جديدة، فالأميركي لا يريد طرد روسيا من سورية بقدر ما يريد إغراقها فيها، وأغلب الظن أن الروس أدركوا هذا الفخ الأميركي؛ فأرادوا الخروج منه بخطوة استباقية وهي تدويل المسألة وشرذمتها، قبل أن يُطبق الأميركيون الحصار عليهم في الوسط، لأن الثمن حينئذٍ لن يكون خسارة روسيا لسورية فقط، وإنما سقوط بوتين في موسكو التي تعيش اليوم أسوأ حالاتها الاقتصادية، أما طرح الروس بلدان مثل الجزائر وعمان ومصر، فهذا فطنة روسية لضرب العرب بعضهم ببعض، وشرذمة قرارهم المشرذم أصلًا، فهذه البلدان التي تدّعي موسكو أنها محايدة هي من أشد الدول تأييدًا للنظام، وهي مرفوضة من طرف البيئة الحاضنة للثورة.
من المؤكد، أن القول الفصل لن يكون للسوريين، ولكن عليهم -أضعف الإيمان- أن يقولوا كلمتهم بجرأة ووضوح، ويجب ألّا يدعوا الروس يرمون كرة اللهب في وجه المجتمع الدولي، بعد أن حافظوا على إشعالها ست سنوات.