ليتَ سنتي الماضية كانت جميلة، بقدر ما بدتْ عليه في شريط الذكريات الذي صنعه لي (فيسبوك). كان عام المحرقة الكبرى، والتنكيل بالضحية، وكانت حلب تنزف في داخلي، ولم يكن قربي غير هاتفي، أتصفحُ فيه المزيد من أخبار جريمة بقيت بلا عقاب، ولستُ حجرًا حتى أحافظ على هدوئي وأعصابي.
في حلب أودعتُ ذاكرة أعيادي، منذ طفولتي وحتى حصولي على الشهادة الثانوية. في “الزبدية” كان منزل جدي لأمي، وفي “سيف الدولة” كانت تسكن خالتي، وعلى امتداد الدرب الفاصل بين الحييّن، كان يقطن العديد من أقاربي، وكنت أغادر مدينتي الساحلية مع أسرتي، ونقضي أيام عيدي الفطر والأضحى، ونحن ننتقل بين بيوتهم الدافئة.
وحدهم الحلبيون يقبّلون الروح للتعبير عن الحب.
“أبوس روحك حلب”.
ومن بين دموعي تستيقظ ملامح المكان والبشر، أتأمل العمارة الأنيقة، والحجر النافر الذي يكسو المباني، أسمع جدتي تغني لعبد الوهاب، وهي تسقي الفل والياسمين، أرى قريباتي بأثوابهنّ القصيرة، أذكر سهرات “الموغامبو” في السبيل، أمشي في أسواق العزيزية وفي حديقة الحيوان، وأدور حول القلعة الشامخة. كانت المدينة العريقة تنسج هويتها المعاصرة، قبل أن يضربها حافظ الأسد بعصاه الغليظة.
في جامعة حلب كانت تدرس أختي، وكان أول الشتاء القارس وآخر الليل، حين داهم عناصر الأمن منزل خالي بحثًا عنها، لم تكن عنده، كانتْ عند جدتي، وما إن خرجوا حتى اتصل بها، وأخبرها أنهم في الطريق إليها.
خرجتْ أختي على عجل، مزودة بآية الكرسي التي قرأتها عليها جدتي، قبل أن تغادر دار الحب. وهي لا تدري أين تذهب، وأين تختبئ؟ ما تزودت به لا يقيها البرد والخوف والجوع في الشوارع المقفرة، عند الفجر. وحيدة وعزلاء خاضتْ المعركة مع الوحش، وحين هدّها التعب وجدتْ نفسها تمشي إلى منزل رفاقها، وهي على يقين أنها ستجد عناصر الأمن بانتظارها.
دخلت أختي دار العذاب، وهي طالبة لم تكمل سنتها الثانية، ولم تنهِ ربيعها الحادي والعشرين. أُحيلت إلى فرع التحقيق العسكري بحلب، وبعد شهر إلى فرع فلسطين في دمشق، وأخذت نصيبها من حفلات التأديب، وحين كانت تسحب قدميها المتورمتين، وهي تخرج من غرفة التحقيق، لمحتْ حبها الأول بين دفعة جديدة من المعتقلين.
قضتْ ستة شهور في مهجع مكتظ، تحت الأرض لا يرى الشمس، كان الطعام كريهًا وقليلًا، وكانت تغتسل بمياه باردة وبقليل من سائل الجلي، تغسل ملابسها الداخلية وترتديها على الفور، لأنها لا تملك غيرها، وحين أُحيلت إلى سجن النساء في دوما، وخرجت إلى الضوء، كانت قد فقدت نصف شعرها الناعم الطويل، وكانت طبقة من العفن تكسو جلدها وجفنيّها.
لم أكن هناك، وكانت دراستي الجامعية في بلغاريا، أنستني السجون في بلدي، وحين هاتفتُ أمي وأخبرتني بالمأساة، سقطتْ السماعة من يدي، وغرقتُ بدموعي حتى الصباح. بعدها صارت عاصمة مسراتي سجنًا كبيرًا، في النهار تزحف نيراني وعليها يتمايل وجه أختي الطفولي، الجميل، وفي الليل أسمع صوتها يناديني ويستغيث، ولم ينتهِ الكابوس إلاّ بعد أربعة أعوام، حين حضنتُها بعينيّ.
خرجتْ أختي غرناطة من سجنها، وبقيتُ أنا هناك جامدة مثل تمثال من الطين، أصغي إلى أنين المعتقلين في الليل. بعد سنوات تجرأتُ وسألتها كيف عذبوكِ؟ لم تكد تكمل جملتين حتى ارتعش صوتها، وسالت من عينيّها دمعتان، ضممتُ جرحها إلى قلبي، وخجلتُ من نفسي، لأني فكرت أن أفتحه من جديد.