أدب وفنون

هنري ميلر، ومثاقفة احتياطيي المعرفة

لم ير هنري فالنتين ميلر1891-1980، نفسه في عيون الآخرين، ولم يحاول أيضًا. ما رآه فعلًا، وثمّنه دون ادعاء أو مجاملة، هو إنتاج الآخرين المعرفي، على الرغم مما عرف عنه، من عدم رضاه عن الاتجاه الأدبي العام، في الأدب الأمريكي. فهو من أنصار التعبير الواقعي، ومن رواده أيضًا. وتختلف واقعيته عن واقعية الآخرين، بأن أعماله الروائية تتسم بخلطة، نجد فيها ملامح القصة والسيرة الذاتية والنقد الاجتماعي والفلسفة معًا.

لقد ذهب ميلر بعيدًا في خصوصيته الأمريكية، أمريكا التي كتبها، ومن ثم راح يبحث عنها في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد امتد بحثه عنها إلى عواصم أوروبا، وعلى رأسها باريس!! فأمريكا الواقع بالنسبة إليه “مملوءة بأماكن، لكنها أماكن مزدحمة بالأرواح الخاوية” وهذا ما جعله يقول: “لم أعد أبذل جهدي لأقنع الناس بوجهة نظري عن الأشياء، ولا لمعالجتها. لم أعد -أيضًا- أشعر بالفوقية لأنهم يفتقدون الذكاء”. تأسيس الحياة الأكمل على الأرض يقتضي بالضرورة موقفًا مما هو موجود. وقد كانت حياة ميلر مبنية على هذا الموقف الذي عبّر عنه في الكثير من البورتريهات التي كان يرسمها، ليرينا الهوة بينهم وبين الحضارة الأمريكية التي هم قوامها، ووقودها في آن واحد!! تلك الحضارة -برأي ميلر- تمثلها هوليود التي لم يستطع طغيانها أن يمتد إلى روحه، والأرواح الاستثنائية الأخرى، تلك الأرواح التي بقيت في الشوارع الخلفية للبؤس!!

في كتابه “الكتب في حياتي” كما في الواقع، لا يهتم بما يقال عن تاريخ الأدب، ورواد كل مرحلة من ذلك التاريخ، بل يمعن النظر في الإنتاج المعرفي لكل مرحلة، ويقول رأيه، بمعزل عن قوائم البيبلوغرافيا “إن الكتب الفريدة نادرة، ربما هي أقل من خمسين، في مخزن الأدب كله“. هذه الانتقائية في الاختيار، يقابلها اختيارية في الإنتاج، جعلته غير مستساغ من عامة القراء، وعامة النقاد أيضًا.

في ذلك الكتاب، يحاول هنري ميلر سبر أغوار ذائقته المعرفية، فيروي وقائع رحلته مع الكتب؛ مذ كان طفلًا، فتتداخل السيرة الحياتية للكاتب مع مسيرة القراءة، حيث يبين لنا من خلالها، كيف تشكل القراءة نبع مؤثرات يروي منه الكاتب مساحات خياله الخلاق.

ولا يتوقف في أثناء تلك المسيرة، عن بث الآراء النقدية في متن الصفحات وهوامشها، سواء كان الحديث عن الكتب التي قرأها في طفولته، ويقول عنها: “يغيب حس الفكاهة بصورة كريهة في كتب الأطفال“. ويؤكد لاحقًا أنه لا توجد: “هناك قصص أكثر إغراء له -كطفل- من تلك المأخوذة من ألف ليلة وليلة. ويشعرني الفولكلور الهندي الأمريكي بالبرودة، بينما فولكلور أفريقيا قريب مني، وعزيز علي. وأي شيء أقرأه من الأدب الصيني ما عدا (كونفوشيوس)، يبدو وكأن أسلافي كتبوه” هذا الشعور لم يقتصر على الأدب، ثمة غلبة لمواقفه الإنسانية، تبدت واضحة في ذلك النص الذي حمل عنوان: “اقتلوا القاتل” النص المناوئ لكل الحروب، وجميع أشكال القتل.

في كتابه: “اعترافات هنري ميلر في الثمانين” يقول: في هذا العمر، فقدتُ الكثير من أوهامي، لكنني لحسن الحظ لم أفقد فضولي الجامح. الفضول -لمعرفة أي شيء وكل شيء- هو ما صنع مني كاتبًا. الفضول الذي لم يتخلّ عني أبدًا. إلى جانب هذه الخصلة، أدين بالفضل لخصلة أخرى، أضعها فوق كل اعتبار، وهي حاسة الدهشة. لا تهمني قيود حياتي كلها، لكنني لا أستطيع أن أتخيل، أن تتركني الحياة فارغًا من الدهشة. أسمّيها إلى حد ما: ديني. أنا لا أتساءل أبدًا عن هذا الوجود الذي نسبح فيه، كيف جاء وخُلق. أنا أستمتع به وأقدّره فحسب“.

هذه التجربة الحيوية هي أحد مصادر إلهام هنري ميلر، والينبوع الذي لا ينضب لإبداعه. هذا هو احتياطي المعرفة الذي ما فتئ هنري ميلر يستعيده في ذاكرته، وفي أحاديثه، وفي كتاباته، ولم يعتبره من مسلماته، فهذه الذخيرة كانت قابلة للمراجعة بشكل دائم.

إن أصعب ما يمكن أن يواجه المبدع، هو أن يتوقف عن محاولة تغيير العالم“. هذه المهمة التي كلف نفسه بها، لا أحد يعرف صعوبتها مثلما يعرفها هو، إلا أنه لم يتوقف عند تلك الصعوبات، وتلك من صفاته ككاتب أصيل، كاتب يعرف –تمامًا- ماذا يريد، لذلك تراه يعود -دائمًا- إلى الينبوع، الذي هو الحياة.

إن أعظم درس ينبغي تعلمه في هذا العصر الذي يؤمن بأن هناك طريقًا مختصرًا إلى كل شيء، هو أن الطريق الأصعب هو الأسهل، على المدى الطويل. فكل ما هو مذكور في الكتب، وكل ما يبدو حيويًّا ورائعًا بصورة مخيفة، هو ذرة فحسب من ذلك الذي ينبع منه، وبمقدور الجميع الوصول إليه“. تلك هي الوصفة السحرية التي أراد هنري ميلر أن نعرفها، ونعمل بها، بيد أن الكثير من الكتاب ما زالوا -مع الأسف- يختارون الطريق المختصر للوصول. فهل وصلوا؟

 

[av_gallery ids=’83074,83075,83076,83077′ style=’thumbnails’ preview_size=’portfolio’ crop_big_preview_thumbnail=’avia-gallery-big-crop-thumb’ thumb_size=’portfolio’ columns=’5′ imagelink=’lightbox’ lazyload=’avia_lazyload’ custom_class=”]

</textarea></div>

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق