داريّا تلك المدينة العريقة المجاورة لدمشق، والشقيقة لها بعراقتها، وبخمسة آلاف سنة من أول تاريخ لأول حضارة بشرية، ولأول تعرّف للإنسان على نفسه وعلى الكون.
داريّا المدينة التي شكلت رئة دمشق الأقرب، حيث كانت دمشق تتنفس من بساتين كفرسوسة، وكانت كل مئذنة فيها تنادي أختها في داريا، وتوقظان الفجر في القلوب.
داريّا المدينة النابضة بكل أشكال الحياة وطاقاتها، المدينة المعروفة بجودة نجّاريها، وبقدرتهم العالية والموروثة جيلًا عن جيل، بصناعة كل أنواع المفروشات، داريا المدينة التي لم يكن من الممكن لزائرها أن يسير في شارع من شوارعها دون أن يجد فيه معرضًا للموبيليا، يجاوره آخر ينافسه في الذوق والجودة والفن والجمال، ودون أن تباغته رائحة الخشب التي تحيي الروح في تلك الشوارع، ودون أن يسمع صوت آلات النجارة، وهو فيها يعيد إنتاج الحياة حين يصنع سريرًا لزوجين بكثير من الجمال، وحين يصنع لهما خزانة مزخرفة يعلقان عليها أحلامهم البيضاء، ولا يقطع صوتَ آلات النجارة إلا صوت باعة المدينة الجوالين الذي ينادون على خُضَرٍ وفواكه مقطوفة من بساتينهم، وفيها طعم الأيادي التي زرعتها لم يزل طازجًا.
داريا المدينة التي كان يعيش فيها المسلم مع المسيحي بكل ألفة واحترام، وكانا يتزاوران، ويقدّر كلّ منهما طقوس الآخر وأعياده، وحين كان يزورها شهر رمضان الفضيل، تتحول إلى مهرجان من البهجة العارمة، وكان نداء “الله أكبر” يصدح من كلّ شوارعها ليجعل الفجر الرمضاني مليئًا بالحب، وبشمس الألفة، وكانت روائح الطعام المميز تبدأ بالصعود نحو السماء، معلنة عن مدينة طاعنة في قدمها، وفي مدنيتها، وكانت العائلات تلتف حول موائد كبيرة ومتقنة الصنع، مما يحوّل ساعة الإفطار إلى ساعة لتناول المودة، وساعة لبدء إعلان جديد بحب العائلة.
ولعل ما كان يميز داريّا هو تلك الالتفاتة التي كان يقدمها المحسنون للمسلمين في شهر رمضان الكريم، وذلك عن طريق إرسال أطباق مميزة تزيد من حجم تلاحمهم، أو حلوى كانت تجعل طعم الحياة أطيب.
اليوم يأتي رمضان، ولا مآذن تنادي في فجر داريّا، ولا مسحراتي يقرع طبله كما يقرع الفرح، ويرقص الهواء على إيقاعه، ويوقظ القلوب النائمة. يأتي رمضان، وأطفال داريا قد ذهبوا إلى قبورهم سالمين، ذهبوا جميعًا كي يلعبوا هناك بالمراجيح، وكي يطعموا عمرهم القصير “كعك عيد” لهذا العالم النذل.
يأتي رمضان، وكل العالم الإسلامي يرفع “الله أكبر” في مساجده، وكل المآذن في العالم تنادي “حيّ على الفلاح”، ولا فلاح.
فقط المدينة الطاعنة بعراقتها صارت طاعنة بالموت، المآذن فيها هوت على مساجدها وبكت، المساجد تبكي صور المجزرة على حيطانها، المساجد تبكي صوت المصلين الذين رحلوا وحدهم إلى الموت، ساحة المسجد تندب آخر الوجوه التي رآها الشهيد قبل بدء المذبحة، اغتيل صوت المؤذن بقذيفة قادمة من طائرات تحجب السماء، الساحات تعيد قلب “غياث مطر” إلى أمه طازجًا، ما بقي من أهل المدينة توزع في بقاع الأرض، حملوا ذلّ الباصات الخضراء، حملوا خذلان العام كله على أكتافهم، ورحلوا.
يأتي رمضان بعد ست سنوات من أول صرخة “الله أكبر، حرية” صعدت من قلوب المتظاهرين، وغيرت وجه السماء، ست سنوات مرت بعد الورود التي حملها المتظاهرون في داريا، كي يقولوا لكل هذا العالم الأعمى نحن دعاة حياة، ودعاة ألفة وسلام. يأتي رمضان ولا أحد في المدينة، ولا مدينة في المدينة، يأتي رمضان وكل مئذنة، هوت على الأرض تنادي أختها كي تؤذن للشهداء.
يأتي رمضان، ووحدهم الشهداء في القبور، في داريا يستعدون له جيدًا، ويخبر أحدهم الآخرَ بأن رمضان اقترب، فهو يحس ذلك في عظامه. يأتي رمضان، وكل مآذن العالم تؤذن من دون صوت، فقط ذاك الشهيد المقيم في داريا إلى الأبد، سيصعد إلى أعلى مئذنة هوت، وسينادي على هذا العالم العفن: “الله أكبر”…. حي على الفلاح.