سورية الآن

وداعًا للانفتاح: على أعتاب الانتخابات البرلمانية البريطانية

مرَّ عامان على آخر انتخاباتٍ عامّة في بريطانيا، آنذاك، كانت لندن تشكّل جسرًا بين أميركا الأوباميّة وأوروبا، وكان الاقتصادُ المحليّ يشهد بعضَ التحسن عَقِبَ سنواتٍ من تراجع مستوى المعيشة في المملكة المتحدة إلى مستوياتٍ تاريخية. كذلك عزّز قرارُ الاسكُتلنديين البقاءَ في ركب المملكة المتحدة الإحساسَ العام بالتفاؤل. وقد جاءت نتيجة انتخابات عام 2015 لصالح المُحافِظين الذين اختارهم الناخب البريطاني الذي أدارَ ظهرَه لبرنامج العُمّال الذي بدا ماركسيًّا أكثر مما يحتمله الشارع البريطاني في ذلك الحين، وهو الأمر الذي استغلّه المحافظون جيّدًا في التهويل من خطورة فوز حزب العمّال بالأغلبية البرلمانية.

أمّا اليوم، فتجد بريطانيا نفسها في حِقبةٍ مغايرة بعد “البريكسِت” التي جعلتها تتخلّى عن أكبر شركائها التجاريين ممثّلًا بالاتحاد الأوروبي وتخطب ودَّ آخرين في مقدّمتهم الولايات المتحدة الأميركية التي اختارت زعيمًا، لا يبدو أنّه يرحِّبُ بالتعاون المتكافئ بِقَدرِ ما يسعى إلى ممارسة سياساتِ اليدِ العليا. كان من شأنِ تلك الاستدارة الحادّة أن تلقي بظلالها على الاقتصاد المحليّ، إذ يبدو إلى الآن أنَّ معدّل النموّ آخذ بالتباطؤ على خلفيّة المناخ السياسي المُهيمِن.

إذن، نجح التيّار المناصر للخروج من الاتحاد الأوروبي داخل حزب المحافظين في إقناع الأغلبية الضئيلة بأجندته. ودّعت بريطانيا أوروبا، ثمّ غادَرَ ديفيد كاميرون مقرّهُ في “10 داوننغ ستريت” لصالح تيريزا ماي التي تعهّدت بإعادة توحيد المُعسكرَين: مؤيّدي الخروج ومؤيّدي البقاء، وبدأت بجولة جديدة من المفاوضات مع الأوروبيين بهدف إيجاد صيغةٍ أفضل للبقاء، غيرَ أنَّ الأوربيين، وفي مقدّمتهم فرنسا وألمانيا، لمْ يشتروا بضاعة ماي على ما يبدو.

خيّمت ظلالُ “البريكست” على السياسة الداخلية البريطانية معزّزةً الافتراقَ بين خطابَي الحزبين الرئيسين في البلاد، كما دفَعت بالحزبين إلى استبدال زعيمَيهما بآخرَين. صعد جيرمي كوربِن إلى رئاسة حزب العمّال مُعلِنًا عن برنامجٍ يساريّ الملامح بسياسةٍ ضريبيةٍ يرى المراقبون أنّها الأكثر عِبئًا منذ الحرب العالمية الثانية. بِدَورِها أنذَرَت تيريزا ماي بخروجٍ قاسٍ ومُكلِف من الاتحاد الأوروبي.

على الرّغمِ من الافتراق الجوهري بين القناعات السياسية، لكلّ من ماي وكوربين، وهو الافتراق المعهود بين اليمين واليسار، إلاَّ أنَّ نظرةً أعمَق ستكشفُ عن رابطٍ يجمعُ بينهما، وهو رغبة كلَيهِما بالتقوقع وخفضِ مستوى الانخراط البريطاني في السياسة الدوليّة، وما يتبعها من فضاءاتٍ من قبيل الأسواق الحرّة والحدود المفتوحة؛ وهو الأمرُ الذي يؤسّس لقطيعةٍ مع تراثٍ سياسي استمرّ لما ينوف على أربعين عامًا.

جيرمي كوربن، اليساريّ المحافِظ

يُمثّل جيرمي كوربن نزعةً يساريّة راديكالية و”مُحافظة” إذا جاز التعبير؛ فبرنامجه السياسي ينطوي على خطّةٍ تأميميّة تقتضي استعادة القطاع العام لدوره الريادي، من خلال تأميم خدماتٍ رئيسة مثل شبكات الخطوط الحديدية والمياه والبريد. كذلك يريدُ كوربن رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى مستوى يسمح للحكومة تحديد أجورِ ما يزيد عن نصفِ القوّة العاملة في سوق العمل المحلي، وتستهدف خطته الضريبية الشركات العالية الربحيّة لتأمين الموارد. أمّا على مستوى التعليم، فيريدُ كورين أن تكون الدراسة الجامعية مجّانيّةً مثلما كان عليه الحال حتى بداية التسعينيات.

ومع أنَّ العمّال يتّخذون موقفًا أكثر مرونةً من المحافظين إزاء “البريكسِت”، إلاّ أنّهم ليسوا على النقيض التام، فهم يؤيّدون وضع حدٍّ لحريّة التنقّل بين مواطني الاتحاد الأوروبي؛ ممّا سيؤثّر بالضرورة على عضوية السوق الموحّدة. يبقى الاختلاف الأبرز في كون جيرمي كوربن أكثر انفتاحًا بشأن مسألة الهجرة من نظيرته ماي؛ ممّا قد يفتح الباب على اتفاقيةٍ أفضل للتجارة مع الأوروبيين، وإنْ كان إرثُهُ الطويل في معاداة العولمة قد يقوّضُ من فُرَص اتفاقية كهذه، بحسب ما يرى مراقبون.

يناصب كوربن العداءَ للِّيبرالية الاقتصادية، ولا يبدو أنَّ برنامجه يحفَلُ بمسألة حقوق الإنسان التي عادةً ما تُفرِدُ لها الأجندات السياسية بعض المساحة الترويجية، كما يأخذ منتقدو كوربن عليه مناصرته لطغاةٍ يساريين، مثل هوغو تشافيز وفيديل كاسترو. كذلك يُتَّهَمُ كوربن بِقُربِهِ من إيران وتأييده للتفاوض معها، فضلًا عن مناصرته لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة التي يَعِدُ بالاعتراف بها، في حال فوز حزبه بالانتخابات. وبحسب الاستطلاعات الرّاهنة، فإن “حزب العمال حقق أعلى نسبة في الاستطلاعات منذ الانتخابات التشريعية، في أيار/ مايو 2015 عندما فاز بـ 30,4 بالمئة من الأصوات، وهو ما يشير إلى أنّ برنامجه الحالي يلقى المزيد من الترحيب لدى الناخبين”.

تيريزا ماي، الانقلاب على إرث مارغريت تاتشر

على غرار كوربن، تتجه تيريزا ماي إلى التركيز على الداخل ومغادرة السوق الأوروبية الموحّدة، وهي التي عدّها المحافظون ذاتَ يوم أبرز إنجازات مارغريت تاتشر. أمّا بشأن مسألة الهجرة، فإن ماي تتعهّد بخفض مستويات الهجرة إلى بريطانيا، بمُعدّل ثُلُثَين، وهي القادمة أصلًا من وزارة الداخلية البريطانية حيث ظلّت فيها مدة ستّ سنوات؛ وبالتالي فإنَّها تعرف تمامًا كيف تنجح في خطتها هذه.

مع أنّها ظلّت، حتى وقتٍ قريب، ترفض الدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانيةٍ مبكّرة، إلاَّ أنَّ تيريز ماي غيّرت رأيها فجأةً لتُعلن عن رغبتها في إجراء تلك الانتخابات في الثامن من الشهر الجاري، إذ تأمل ماي أن تُسفِرَ نتائج الانتخابات عن تثبيتَها رئيسةَ حكومةٍ “قويّة ومستقرّة” كما تردد دومًا. غيرَ أنَّ ما تقدّمَ من أدائها إلى اليوم قد لا يدعمُ افتراضها هذا. إذ يتّهِمُها مناوئوها بالتردّد والتّيه السياسي، والاعتماد على حلقةٍ مغلقة من المستشارين ذوي النظرة الضيّقة، كما أنَّ أداءها في مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا يبدو أنّه يبشِّر بالخير إلى الآن. أمّا اقتصاديًّا، فلا تبدو ماي بعيدةً جدًّا من خطة كوربن لجهةِ تركِها الباب مواربًا لزيادة ضريبية محتَمَلة.

كان مُلفِتًا في أداء تيريزا ماي، منذ تولّيها رئاسة الحكومة البريطانية ومطالبتها بالحصول على تفويض سياسي مُطلَق لصالح البدء بإجراءات “البريكسِت”، شنّها لحملةٍ عدائيةٍ تجاه حزب “الديمقراطيين الأحرار” الذي اتهمته عدَّة مرّاتٍ بعرقلةِ مفاوضات “البريكست”، على الرغم من أنه لا يمتلك سوى 9 مقاعد، في مجلس العموم البريطانيّ. كذلك اتّهمت ماي معارضيها، من داخل حزبها، بالتورط في “الألاعيب السياسية” على خلفيّةِ الاعتراضِ على منحِها تفويضًا مطلَقًا، يخشى معارضوه أن ينسحِبَ على قضايا أخرى غير “البريكسِت”.

وإلى الآن، تُظهِرُ عدَّةُ استطلاعات للرأي -نشرتها الصحف البريطانية، الأسبوع الماضي- أنّ الفارق الكبير الذي أحرزه حزب المحافظين البريطاني في الاستطلاعات، أمام حزب العمال قبل الانتخابات التشريعية في 8 حزيران/ يونيو، العام الماضي، تقلّص إلى حدّ كبير، بعد أن قدّم الحزبان برنامجيهما اللذين يتأكّد من مطالعتِهِما أنّه سواء فاز المحافظون أو العمّال، فإنّ الليبرالية الكلاسيكية هي الخاسرة في الانتخابات القادمة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق