يُعتبر بيت الطفولة “كون الإنسان الأول”(1)، باعتباره أول تحديد كياني في ذاكرة الإنسان، وبالتالي في شخصيته وهويته. وهو مكان الألفة والانتماء والإحساس بالحماية والأمان، ومركز تكييف الخيال الذي يستعيد الإنسان من خلاله كل الأماكن الواقعية والمتخيلة. البيت القديم الذي نعيش لحظاته من خلال الأشياء والأدراج والصناديق، العلية، غرفة العزلة، وأماكن أحلام اليقظة، و”بيت الأشياء” كما يسميه باشلار، وهو كما العش بالنسبة للطائر “يجعلنا نضع أنفسنا في أصل منبع الثقة بالعالم”.
لكن يبقى السؤال المربك والمحير: كيف يرى السوريون اليوم، والأطفال منهم -بشكل خاص- بيوت طفولتهم؟ أي ألفة وأمان عاشوها ويعيشونها في بيوتهم القديمة، أو ما بقي منها، أو في خيامهم المستحدثة؟ وأي بيوت يبنونها تخيلًا في أحلامهم وأحلام يقظتهم؟ وأي ثقة يشعرونها بالعالم الآن؟ وهل سيكتب باشلار فصلًا جديدًا في (جماليات المكان)؟
ليست الحرب السورية الحرب الوحيدة في التاريخ، وقد لا تكون الأخيرة. “فالعنف قاطرات التاريخ”، كما وصفه ماركس، وعالم الإنسان لم يبدأ بعد، لكن ربما يكون للحرب السورية فرادتها التي تضع الثقة بالعالم والمستقبل الإنساني، على محك الشك والاختبار. فأي ثقة في العالم لدى السوري الذي بات يستشعر في ضميره نية مبيتة لقتله، ومحو تاريخه وتدمير حضارته وطمس هويته -في أسوء الأحوال- أو تبرير قتله بذرائع شتى، والتواطؤ على تقويض ثورته ومستقبله وديمومة شقائه وعبوديته، في أحسن الأحوال؟
ولما كانت حاجات الأمان التي صنفها ماسلو في: “السلامة الجسدية بعيدًا عن الاعتداء والعنف، والأمان في الوظيفة التي يشغلها الإنسان، والأمن النفسي والمعنوي، والأمن داخل الأسرة، والأمن الصحي، وأمن الممتلكات الشخصيّة والموارد ضد الحوادث والجرائم”(2)، تحتل المرتبة الثانية، بعد حاجات الإنسان الحيوية الأساسية في هرم الحاجات، من حيث الأهمية، أي قبل الحاجات الاجتماعية والحاجة لتقدير الذات، ومن ثم تحقيق الذات التي تهيئ الأساس الإبداعي الذي يهب الحياة الإنسانية معنى في نفس الكائن البشري، وتؤهله للارتقاء نحو عالم الإنسان. فأي أمان يشعره السوري في وطنه وبيئته وأسرته وبيته -إن وجد- يلبي ويشبع حاجته للأمان؟ بخاصة في الأماكن التي يفتقد الإنسان فيها، حتى احتياجاته الفيزيولوجية الأولية أو يكاد، وشبح الموت يخيم على عقله وهواجسه في كل أوان.
ولما كانت الذاكرة جزءًا هيكليًا في فكر الإنسان وشخصيته، والتذكر فعلًا انتقائيًا في الوعي أو في اللاوعي، يميل الفرد من خلاله لاستحضار الذكريات المرغوبة، أو نفي واستبعاد الأحداث المؤلمة، ومحاولة نسيانها والتنكر لها، كحالة دفاع أولية لاستعادة التوازن في لحظة الوجود الراهن. فأي ذكريات ستبقى في ذاكرة أطفالنا المرضوضة، عن بيت الطفولة الأول؟ وأي جمالية للمكان ستعلق في عيونهم، وعلقة الدم المتخثر على الجروح الطرية، تطبع صور الوجوه المعلقة في بهو الذاكرة؟ وأي حلم سيراودهم في نومهم أو يقظتهم عن بهو البيت الذي تختلط فيه أشلاء الأشياء بأشلاء البشر، وأحشاء الأدراج وأخلاط روائحها بأحشاء أصحابها ورائحة أخلاطها؟
أي ألفة في الأقبية الرطبة وعتمتها الموحشة وسقوفها الواطئة ورائحة عفونتها وبرودة ليلها التي تنهش الأطراف وتبث الخدر في الأصابع؟ وأي ألفة في الوجوه حين تتبرأ الألوان من تعب فرادتها، ويشرب الأصفر الشاحب كل ألوان ملامحها، وينبئ بزيارة الموت المتوقع مع كل هدير يخرّق وجه السماء أو يشوه وجه الأرض، وتصير اللغة صرخات خرساء في كون أعمى؟
ماذا سيحمل السوري في ذاكرته من صور للعليّة المتكئة على لزوجة الهواء وشرايين حنينها الصدئة، كشجرة يابسة تهدهدها الريح، وجيران غادروا صوب المجهول، وتركوا أسرار بيوتهم مكشوفة على قارعة الطريق، وطرق فقدت غاية وجودها ولم تعد توصل إلى أي مكان؟
على أي قافية غير قافية الجوع سيكتب المُحاصَر شعرًا في الحصار، وبأي بلاغة غير بلاغة الحنين سيكتب المنفي شعرًا في الوطن، وأي علاقة ستكون بين المواطن والوطن، وكيف سيعيد تشكيل الوجود المكان، على خارطة العدم؟
أي ثقة بالعالم لأطفال لفظتهم أرحام بيوتهم، يجرون حبل سرتهم إلى العراء، منذ الطلقة الأولى، وبات ختم اللجوء الممهور على الوجه والإلية والروح، هوية تحتمل صفة الإرهاب على أقل تقدير، وبطاقة الإغاثة بطاقة تعريف جديدة، برقم خانة لبيت مُسحت معالمه من الأرض ومن الذاكرة؟
أي أدب سيقرأ أطفالنا يستحث الخيال ليبني ألفة الشبه بين الأماكن والحوادث! وأي أدب سيكتبون! وإلى أي الأماكن ستأخذهم أحلام اليقظة، ما لم يستعيدوا ذاكرة بيوتهم الأليفة، أو يبنوا ذاكرة لبيوت أليفة تشبع حاجة الأمان والانتماء والاجتماع والإبداع فيهم، ويأخذهم إليها الشوق على أجنحة الأثير ولا تتمزق أرواحهم على أشرعة الحنين.
_________________________________________
1-غاستون باشلار: جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا-ط2-1984-المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت- لبنان.
2-نظرية إبرهام ماسلو للحاجات الإنسانية:
أكاديمية علم النفس، http://www.acofps.com/vb/showthread.php?t=5938