قضايا المجتمع

ثنائيات: إقبال ونيتشه

تنظر الشعوب الإسلامية إلى الشاعر الباكستاني محمد إقبال (-1938)، في نطاق واسع، على أنه فيلسوف الإيمان، وشاعر الحضارة الإسلامية، ومؤسس باكستان، وشاعر الصحوة الإسلامية، وهي ألقاب تجد أدلتها وتأييدها، في طول العالم الإسلامي وعرضه، وباتت -لشدة وضوحها- لا تحتاج إلى برهان.

ومن هنا؛ كانت صلة إقبال بأفكار الفيلسوف والشاعر الألماني فريدريك نيتشه (-1900) غريبة وصادمة؛ فالرجل الذي كان يملأ هضاب نجد وصحراء الحجاز بدموعه اللاهبة، شوقًا إلى ضريح محمد وكعبة الله، لا يمكن أن يكون قسيمًا فكريًا للفيلسوف الألماني الهائج الذي أعلن “موت الله”!!

وفي حين أعلنت الكنيسة -بكل طوائفها- نيتشه عدوًا للمسيح وظهيرًا للكفر، كان إقبال يبحث فيه عن شيء آخر، ومع أنه لم يكتب حرفًا عن نيتشه في كتبه الأولى، ولكنه في كتابه الأخير (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، يتناول نيتشه ست عشرة مرة، بوصفه فيلسوفًا عميقًا ثائرًا على الخرافة والجهل!

كان يتبادل مع نيتشه غضبَه على الكهنوت وعلى الأخلاق الخانعة التي يعلّمها الكهنوت، لم تكن تعجبه ثقافة “إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، وإذا أخذ رداءك فأعطه إزارك…”. وهي المعاني نفسها التي تكرّسها المدارس المنتشرة للصوفية الفاشلة التي حولت المجتمع الإسلامي إلى ملالي ومريدين، وأعلن غضبه الحارق على الفهم الفاسد للدين والإنسان، لقد كان يعجبه الثائر القوي الذي يملك أقداره بيمينه، ويكتب مستقبل الأجيال بزنده، ويكتب بسيفه حركة التاريخ.

كان إقبال ينظر إلى نيتشه على أنه فيلسوف “السوبرمان” والإنسان الأعلى، ومشروع ثورة حقيقية جارفة، تجتث كل ما في طريق القيام مِن وهنٍ وخورٍ وضعفٍ؛ لينطلق الإنسان من أجل مشروعه الجديد، حيث لا مكان إلا للأقوياء والقادرين على خلق الحياة بلون آخر. وفي هذا السياق، سجل إقبال في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام) إعجابَه الكبير برجال ثلاثة من زعماء الهند، وهم أحمد الفاروقي السرهندي، وشاه ولي الله الدهلوي، وأورنك زيب. وقال: لولا هؤلاء الثلاثة لابتلعت الهند الحضارة الإسلامية.

 

أما أحمد الفاروق السرهندي المتوفى 1624 فقد كان من أبرز علماء الشريعة، وكان مرشدًا على الطريقة النقشبندية، وعُرف في التاريخ باسم “مجدد الألف الثاني”، وقد اشتهر بصلابته وثباته في وجه السلطان أكبر، ومقاومته لمشروع الدين الجديد الذي دعا إليه أكبر؛ أما ولي الله الدهلوي فقد كان أبرز علماء الشريعة وفقهائها في الهند، وقد توفي عام 1762؛ أما أورنك زيب فقد كان أبرز سلاطين المغول المسلمين في الهند 1658-1707، وقد نجح في بسط سلطان المغول المسلمين على كامل تراب الهند، وأوقف انهيار الدولة المغولية. وهؤلاء الثلاثة يرمزون -في فكر إقبال- إلى قوة المسلمين في الهند، وقد كانت الهند أحوج ما تكون إلى ثقافة القوة في أيام إقبال، بعد أن مارست بريطانيا احتلال الهند بشكل مباشر، عقب إسقاط السلطان بهادر شاه.

كان يبحث في همم المسلمين عن رجال مثل هؤلاء، يبعثون الإرادة في الأمة المائتة، ويحيون عزيمتها ويقاومون سقوطها وانهيارها الذي كانت تبرره لهم ثقافة القضاء والقدر، وكان أكثر ما يطلق غضبه على فكرة “القدَر”، ويقول للمسلم: ويلك!! أنت هو القضاء وأنت هو القدر، ولا يستطيع القضاء ولا القدر أن يركب ظهرك، إلا إذا وجده منحنيًا.

وهنا يسجل إقبال بريشته صيحة نيتشه، كما هتف بها “زارا” العائد من الجبل: الكون يتجدد كل يوم، والحقائق تعيد إنتاج ذاتها، إنه العود الأبدي… الشعرى والعنكبوت وأفكارك التي تكررها بلا سأم، والسوبرمان نفسه… حياتك كالساعة الرملية تمتلئ وتغور، ولن تنتهي إلى الأبد.. أنت حبة ستتلألأ إلى الأبد..

نيتشه رفض ذلك الإله المصلوب العاجز عن حماية نفسه، وقال: إن أمة هذه آلهتها لن تنهض أبدًا، وأعاد تفتيش رسالات الأنبياء، ولم يتردد أبدًا في الذهاب إلى “زارا” ذلك النبي الذي كان إلهه النار، وأعظم به من إله هادر قادر! يدمر العالم ويعيد إنتاجه خلقًا جديدًا، وهناك رأى أن أفضل ما عبده العابدون هو النار المقدسة، هو القوة والعنفوان. وحين نزل من الجبل، كان يصرخ في الجموع الهائجة: متى يستيقظ الإنسان ويركل في ربه كل تلك الأوهام السخيفة، ويستأنف انطلاقه إلى الإنسان الأعلى، كل الحيوانات طورت أنفسها، وأنتجت شكلًا جديدًا من الحياة أكثر قوة وتلاؤمًا: الزرافة والبقرة والحصان والأفعى والأسد، كلها تجاوزت مكانها الذي كانت فيه، حين حافظت على الأقوى من عناصرها وجيناتها، وداست بأرجلها على الواهن العاجز الضعيف، ولكن الإنسان بقي أسير وهمه، ولم ينجح قطّ في خلق نفسه من جديد، إنه أمر مخجل، ليس نحن من نخجل من ماضينا كقرود، بل على القرد أن يخجل من مستقبله كإنسان، بعد أن فقَد المبادرة وتوقف عن الوثوب، وانكفأ إلى وهنه وضعفه وجراحه، يرتق ويعيد ويبكي ويلطم، ولم يدرك أن سيل الحياة الهادر لن يتوقف عند وهمه!

وحين نزل نيتشه من الجبل، وشهد سقوط البهلوان العاثر أمام الجموع، وقف عنده وقال له: لا تبأس يا صديقي، لقد كنت متعة للناس ومُنية وحاجة للمجتمع، ولكنك تحطمت الآن؛ وعليك أن تموت وسأدفنك بيدي. لا تبأس، ستموت روحك قبل أن يموت جسدك، وستستمر الحياة!

ومع أن جدل إقبال في نيتشه كان يتصل بموقف نيتشه من مسألة “السوبرمان” والإنسان الأعلى، إلا أنّ الجانب الأكثر إثارة وأهمية كان موقفه من نيتشه، في جدل الأديان والحقائق الغيبية. لقد أسَرَ نيتشه إقبالَ بنظريته الغاضبة على الكهنوت، وفي الواقع فإن نيتشه -وهو الذي يُصنف عادةً بأنه من أكثر من الملحدين عتوًّا في الأرض- لا بدّ أن يُذكَر أيضًا كـ “تقيٍّ” مسيحيي أو على الأقل كراهب زرداشتي، ولا يجب أن نتوقع كثيرًا من المنطقية في هذا الجدل، فالرجل لم يزعم نفسه منطقيًا على الإطلاق، وقد كتب شعره في زرداشت غاضبًا ساخرًا مستفزًا، ثم دخل من فوره إلى مشفى الأمراض العقلية، حيث أمضى نحو عشرة أعوام بين عنابر مشفى المجانين.

في الواقع، لم يكن الصراع، بين نيتشه والله، وإنما كان بين نيتشه والكهنوت، وبشكل خاص بين نيتشه والأخلاق الضعيفة التي تعلِّمُها الكنيسية، كتلك التي تدعو إلى الاستكانة، مثل: “من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الايسر، وإذا أخذ رداءك فأعطه إزارك…”.

لقد صرخ الرجل إن أخلاقًا كهذه ستدمر ألمانيا التي يطالبها جيرانها بالتواضع والخضوع، فألمانيا هي بلاد المجد الحضاري الأوروبي، وهي الإمبراطورية المقدسة منذ ألف عام، وعلى العالم أن يتقبل التفوق الألماني والتاريخ الألماني، ولا بد أن تكون ألمانيا فوق الجميع، وهذا هو مكانها وتاريخها وقيامها عبر التاريخ.

لقد اقتبس إقبال القوةَ من نيتشه، ولم ينظر إلى الفيلسوف الهائج على أنه محض زنديق مرتد، بل نظر إليه على أنه ثائر على الخنوع الديني الذي كان سمة الكنيسة في أوروبا، وكان في الوقت ذاته سمةَ التصوف الاسلامي في الشرق.

وعلى الرغم من الحياة الصاخبة المضطرمة للفيلسوف نيتشه، وتناوسه المتكرر بين الجبل والمدينة ومشفى المجانين؛ إلا أن إقبال لم يكن يرى أن فلسفة نيتشه كافية لرسم ملامح الثورة الهادرة التي يريد، فقد كان يريد مزيدًا من غضبه، ولكنه في الوقت نفسه لا يريد انتحاره وجنونه!

من هذا الجانب، وجد إقبال في نيتشه تجربةً تناسب مشروعه في الدعوة إلى قيام المسلم الجديد “سوبرمانًا” جبارًا يكرر رسالته التاريخية المجيدة، ويدعو إلى مجد جديد، على ملامح ما أنجزه المسلم في تاريخه الطويل.

وفي صلته بنيتشه، كتب إقبال للدكتور نيكلسون: “كل من حاول إثبات إفادتي من نيتشه هو لا يعرف الحقيقة. إن نظريتي في الإنسان الكامل قد أبديتُها وكتبتُ فيها قبل أن أعرف نيتشه بسنين طويلة، وقد سبق أن نشرت مقالًا في هذا الصدد منذ فترة طويلة، ثم ألحقته في رسالتي للدكتوراه، عن تطوّر ما وراء الطبيعة في إيران عام 1908م. وأهم ما يفرق، بيني وبين نيتشه، أن نيتشه لا يرى من الضروري أن تتصادم الذات في طريق تنميتها وارتقائها إلى القمة مع العوامل الخارجية، وأما عندي فمن الضروري أن تحدث المعركة بين الذات وبين العوامل الخارجية، والسبب في ذلك أن نيتشه لا يرى من الضروري بقاء الإنسان، وأما أنا فأقرّ بقاء الإنسان”.

إن ثنائية إقبال ونيتشه لم تكن لقاءً فيزيائيًا، على غرار لقاء إنجلز وماركس، ولكنها كانت لقاء حضارتين موجوعتين منهكتين، الأولى ألمانيا التي يتناوشها أعداؤها من كل وجه، وباتت على وشك الغضب المجنون الذي سيجرها إلى الحروب الكونية الطاحنة، والثانية الهند الجبّارة التي كانت أكبر إمبراطوريات المسلمين في آسيا، ثم غدت جزءًا من المشروع البريطاني الاستعماري، وكانت رسالة الرجلين واحدةً في دفع الشعب إلى القيام والثورة، فهناك مجد هائل في أحشاء الهند وفي أحشاء ألمانيا، وفي مقابل إرادة الثورة كانت الأخلاق المسيحية في ألمانيا، والدروشة الصوفية في الهند تكرّسان ثقافة القدَر المحتوم، وتدعوان الشعب إلى الرضا والخنوع، والصبر على لأواء الدنيا وانتظار رغد الجنة، أما الظالمون المستبدون فهم “إرادة الله وقضاؤه وقدره”، وليس من شأن العاقل الاصطدام بهم، بل عليه توكيلهم إلى الله، وسيذوقون النكال في دار العذاب في الآخرة، و”الظالم سوط الله في الأرض ينتقم به ثم ينتقم منه! وأما ما نذوقه من بطشهم وسجونهم ومقاصلهم ومحارقهم، فهو محض ألمٍ عابرٍ سيمسحه عن قريب رغد الجنة!!

تقاسم الرجلان إرادةَ الثورة على المستبدين والكهنة، وقادة السياسة ورجال الدين:

فإلى متى صمتي وحولي أمة ….. يلهو بها الســلطان والدرويش!

هذا بسبحته وذاك بسيفـــــــه ….. وكلاهمــــــــــا ممّا نكدّ يعيش.

Author

مقالات ذات صلة

إغلاق