أدب وفنون

فسيفساء الموت

عشرون لفافة تبغ، أحصيها رمادًا رمادًا، بينما أقرعُ طبولَ الليل الشاسعة، بعد قليل، سيطرق أحدهم الباب، ليسألني ماذا أو كيف أو أين أو…

عشرون لفافة تبغ، وامرأة بشعر أحمر، تعرج بخيالاتها على ذاكرتي المثقوبة، ذاكرتي التي تسقط منها البساتين والسجون والأسرّة والحدود.

امرأة ستحصي في عينيّ ليالٍ بكيتُ فيها -وحيدًا- على جرح في ريشة طائر دون دموع تُذكر، حيث إنها -أقصد الدموع- لن تصيبَ أحدهم بالبلل.

إلا أن المرأةَ التي أنزفها في قصائدي كدم ورد لن تأتي، فالذي يحدث في الحكايات لا يحدث في غرفة رطبة.

عشرون لفافة، وكأنني أضمّد فمَ الصمت بالحرائق، قبل أن تقطعه صديقتي باتصال، من نشيج وبكاء حار يثقب حبال صوتها: “غرقَ إيلان”..

تغلق ُسماعة الهاتف، لأسقط في فراغ الاسم، من هو إيلان، ولماذا يغرق؟

إيلان طفلٌ كردي من مدينة كوباني السورية، كما يحب الكردُ أن يطلقوا عليها، أو هي عين العرب، كما يحب العرب أن يقتنصوا اسمها، وهي مدينةٌ من مدن الخراب السوري، كما شاء لها الحظ هناك، في الشمال المنذور للنسيان. وإيلان طفلٌ في الثالثة من العمر، بيعَ في سوق الماء المالح، فلفظه البحرُ كخنجر طفل في أعناقنا جميعًا.

شريط أحمر بلون الغياب، من الأخبار العاجلة واسمُ إيلانَ يبدو واضحًا كظهيرة أو كفاجعة، أما صوره التي تنزف من الشاشات كدم ولحم، فما هي إلا أوسمة فقدٍ في صدر الرمال الداكنة.

لفافةٌ أخرى من التبغ.

النافذة مشرعة لريحٍ تنضج على مواقد الجثث فتنسل ثقيلة بأرواحها، وسكاكين الأخبار تمزّق ما تبقى من لحم البلاد وترميه حصصًا لأفواه الجوع.. أفواه الساسة والمنظّرين الذين يعبرون جسور موتنا بأحذيةٍ ألسنٍ، غيرَ آبهين بمواضع الطعنات التي تتركها سهام كلامهم.

غريقٌ آخر، غرقى آخرون، والبحرُ هو البحر، والحزن هو الحزن، والفقد هو الفقد بشرائطه السوداء المحزومة ربطًا على زوايا الصور.

تتصل صديقتي مجددًا، بينما أعبرُ الشارع الضيّق الذي يؤدي إلى غرفتها، هنا في الريف الشرقي من دمشق، حيث ذاكرةُ الأشجار وأشباحها، حيث البيوت تتكئ بهدوءٍ رتيبٍ على موتها.

لم يصبني الدهشُ عندما ولجتُ غرفتها، وأنا أتلفّت بين صور القتلى المعلقينَ على الجدران الأربعة، كتمائمَ تحرس المكان من الـ لا شيء، صورٌ لأطفال باسمين ولأمهاتٍ ينسجن الصمتَ من نول الحكمة، صورةٌ لبائع الورد النحيل، يخترق بضحكته الماجنة دخان المشهد: إنّه فارس ذو الاثنتي عشرة باقة، بائع الجوريّ في شارع الحمراء البيروتي، والذي سحقت أزهارَ طفولته طائرة أمريكية، يحملها الموتُ في فضاءٍ زجاجيٍّ هش، لا يملكه أحد هناك في الحسكة.

صورٌ أخرى رمادية كان “يوسف عبدلكي” قد غلّفها بضماد أصابعه في إطارات خشب، لتبقى شاهدةً على الفراغ المر؛ فراغنا المكتوب في رسائلَ لا يقرؤها أحد سوى عيوننا المبللة بدماء الذاكرة.

صديقتي على أريكتها تمسح -من بين خيوط دخان السجائر- الصورَ التي جمّدها السكونُ على الجدران، ثم ما تلبث أن تشيرَ بأصبعها إلى صورةٍ ما:

“تلكَ عائلةٌ اختفت في شاحنة نقلٍ في غابات مقدونيا، بعدَ أن تركهم المهرّبونَ -داخلها- طعامًا نيّئًا للمعدن المحكم الإغلاق بأقفال الحذر”.

تتابع حديثها الذي من أخلاط الجثث والدماء، بينما أذهب بعيدًا بشرودٍ يؤلّف مشاهدَ جديدة؛ مشاهد لا يحفر الألمُ لحمها الرخص بأسنانه الخشنة، فتشرّع مخيلتي نوافذها على بحارٍ ترمي الرسائلَ مغلّفةً بحنينها، ومختومةً بقُبلٍ تركها العشاق الذين عبروا الماءَ بقواربَ ورقية.

نوافذ أخرى على مدنٍ مسكوبةٍ من نحاس الضوء، وعلى أطفال يخدشون حياءَ الجدران بكتابات طفلةٍ ورسوماتٍ تشي بثقة أصابعهم بالغد. الغد الذي لن يأتي.

تشيرُ صديقتي إلى صورةٍ أخرى:

“ذلك وهمٌ من وهمٍ، أو هم من كانَ سائرًا على خيط الحتف فعاجلهُ الحتفُ، نديًّا كما الموت في ثيابه الصباحية، كما الموت في أحاديث الجدّات عن الفقد، يستضيءُ بنار المواقد. أولئكَ معتقلو الحيلة من رسغها الأعمى لرسغهم الأعمى، صاروا إلى جداريّاتٍ تُنحت في متاحف الغرب من حجارةٍ خرساءَ، لا صوتَ لها أو عويلَ يا صديقي”.

لفافةٌ أخرى من التبغ، أشدّ مخيلتي من شباكها لأرضٍ أكثرَ خصوبةً، وأقلّ اقتناصًا للفرح، بينما صديقتي ما تزالُ على حالها في سكبها للكلام المالح في ثقوب صدري، أو زرعه ألغامًا، يدوس عليه الهواءُ بقدميه الثقيلتين؛ فأنفجرُ أشباحًا من الخيالات.

أعود إلى غرفتي، أنزفُ خيوطَ ذاكرتي على الجدران كأرملة سوداءَ، ستأكل بعدَ حينٍ أمسها مدينةً مدينةً، وجسدًا جسدًا. أغلق الهاتفَ، التلفازَ، النوافذَ، الوقتَ، والدمَ الذي يسيلُ من قمصان الندم.

أستجيرُ من الخوف بالمهدئات التي تُسكّن روحي، منذ سبع سنين كاملة، وأستلقي على سريري الضيق كقتيلٍ أخير، قبل أن أُحكمَ إغلاقَ بابي جيدًا، ليبقى وحيدًا وباردًا، باردًا جدًا، لا يعثر على جثته أحد.

شعرك على كتفي

يكنسُ ظلّ التعب..

المسافرونَ يلقون حقائبهم في البحر

يشعلونَ الليلَ والسجائر..

والأصداف تلمعُ من بعيدٍ

مثلَ بيوتٍ من الدمع

لنُلقي

أزهارَ الكلام على الرمل الناعم

عندما نهدك يطعنُ الريحَ بالحدائق

قبّليني

تحترقُ الحاناتُ

من أثر النبيذ على الشفاه.

أحتطبُ أشجارَ الليل

وأشعلُ نارًا سوداء

هكذا أُخمدُ وحدتي.

أطوي ثوبَ السماء

وأنخَلُ نجومهَ في الرمال

تحترقُ أصابعي

هكذا أمتدحُ جسدك.

ستمائة كيلومترٍ تفصلك عن دمشقَ

وحبلك السّري جسرٌ فوقَ ماء المسافة

بيأسٍ، يصغي جسدك إلى الحرائق

يا رقّةُ

نحن أبناءك الشهداء

مثلك يجلدنا ما يسمى “وطن”

ذاكَ خبزُ الأنبياء

والسماءُ النّاقصةُ التي تشتعلُ فوقك

ما هيَ إلا حصصهم المنهوبة

يتقاسمها الرمادُ حزنًا حزنًا

يا رقةُ

نحن، أبناءك الطيبين،

مذ شحذوا ليلك بسكاكينهم

نسيرُ بظهورٍ مقوَسة

ونشتم التراب

أيتُها المرأةُ التي تلمعُ جدائلها

كبيوتٍ من الدمع.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق