مقالات الرأي

شموع الحرية وظلمات الاستبداد

لم يكن جزافًا ما كتبه سليل شيتي، في أحدث تقارير منظمة العفو الدولية، من أن عام 2017 سيحفل بجرائم الكراهية والشعور بالخوف وعدم الاستقرار؛ نتيجة “مقايضة جديدة عرضتها الحكومات على شعوبها، تقوم على وعود بتحقيق الأمن وتحسين الأوضاع الاقتصادية، مقابل التخلي عن حقوق المشاركة والحريات المدنية”.

مقايضة عبّرت عن نفسها بإغلاق الحدود الدولية في وجه الضحايا، والتضييق على المعارضات السلمية، وإفلات مرتكبي الانتهاكات وجرائم الحرب من العقاب، بهدف تعاون جميع الأطراف على محاربة الإرهاب، لكن كل الدلائل تشير إلى أن هذه السياسة لم تنجح في تطويق الهجمات الإرهابية التي توسعت وتمددت بأسماء وأساليب متباينة، بحيث لم تتوقف جرائم الدهس والطعن والتفجيرات والاغتيالات، منذ بداية العام الحالي، ونظرة سريعة على أخبار ثلاثة أيام فقط، من أواسط شهر آب، تكشف كم باتت مهددة حياة المدنيين العزل والناشطين السلميين في مكان من العالم، وكم تراجعت وانتُهكت مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة على المستوى الدولي.

في الثاني عشر من آب/ أغسطس، ضجت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بأخبار الأحداث الدامية في ولاية فرجينيا الأميركية، على أرضية مسيرات نظمها “القوميون البيض”، للإبقاء على تمثال جنرال يمثل ذهنية الحرب والعبودية، ورفع عدد من المتظاهرين صور بشار الأسد، باعتباره بطلًا قوميًا يحق له أن يبيد المعارضين له، وقام شاب عشريني يقود سيارة بمحاولة دهس عدد من المنددين بمسيرات اليمين المتطرف، ما أدى إلى سقوط قتيلة.

في السياق ذاته، نقلت صحيفة (صنداي تايمز)، عن مسؤول لم يُذكر اسمه، أن الشرطة البريطانية “تُحقّق مع أربعين شخصًا من النازيين الجدد للاشتباه في أنهم كانوا يخططون لهجمات إرهابية ضد المسلمين، في مناطق مختلفة من بريطانيا”. وينتمي غالبية هؤلاء إلى اليمين المتطرف. وبحسب المسؤول، فإن “خطر المتطرفين اليمينيين على الأمن القومي لا يقل عن خطر الإرهابيين الإسلاميين”. بل إن “رصد أنشطة النازيين الجدد أكثر صعوبة”، حيث تعتمد مخططاتهم “على البحث ودراسة عمل المنظمات والجمعيات الإسلامية، وكذلك اختيار الأهداف الأكثر ضعفًا بعناية”. وقد كثفوا نشاطهم، منذ حزيران/ يونيو 2016، بعد اغتيال النائبة في مجلس العموم جو كوكس المؤيدة لحقوق اللاجئين.

مساء الثالث عشر من آب، حاول عدد من المسلحين اقتحام مقر منظمة “الدفاع المدني – الخوذ البيضاء”، بقرية بليون في جبل الزاوية، وتصدى الأهالي لهم وأجبروهم على الفرار، وهي الحادثة الثانية من نوعها خلال يومين، بعد مقتل سبعة ناشطين من المنظمة في سرمين. وفي الليلة نفسها، هاجم مسلحون المطعم التركي (عزيز إسطنبول) في أوغاديغو عاصمة بوركينا فاسو؛ ما أدى إلى مقتل 17 شخصًا وجرح ثمانية آخرين، معظمهم مواطنون وبينهم أجانب.

في الرابع عشر من آب/ أغسطس، كشفت الحكومة الهندية عن نيتها ترحيل نحو أربعين ألف مسلم من الروهينغا، باعتبارهم مهاجرين غير نظاميين على أراضيها، متجاهلة أن من بين هؤلاء من هم مسجلون لدى المفوضية السامية للاجئين، وأن القانون الدولي لا يسمح بترحيل البشر إلى الأماكن التي فروا منها، لأنها تشكل خطرًا على حياتهم.

وفي اليوم نفسه، صدر تقرير (الشبكة السورية لحقوق الإنسان) الذي يوثق خمس هجمات بالكيماوي، نفذها النظام السوري بحق المدنيين، بعد مجزرة (خان شيخون) بريف إدلب في نيسان/ أبريل الماضي، وبحسب التقرير بلغت هجمات النظام الكيماوية 207 هجمة منذ آذار/ مارس 2011، وأدت إلى مقتل 1356 مدنيًا بينهم 186 طفلًا. وقبلها بيومين، كانت المحامية السويسرية كارلا ديل بونتي أعلنت استقالتها من لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسورية، بعد خمس سنوات من العمل في إطارها، لتقاعس اللجنة عن محاسبة الجناة على الرغم من وجود الأدلة الكافية لإدانتهم.

تلك ليست سوى عينات محدودة لعدد كبير من الانتهاكات بحق الإنسانية جمعاء، باتت تُطالعنا مع فجر كل يوم جديد، تصاحبها أخبار الشبكات عابرة القارات للاتجار بالبشر، وجرائم اختراق قواعد البيانات في النظم المعلوماتية والأجهزة الشخصية، وهي كوارث أخلاقية تهدد حياتنا، لا بفعل غضب الطبيعة وقوى الغيب، إنما لعجز هيئات المجتمع الدولي عن تحقيق العدالة؛ ما عزز فكرة الإفلات من العقاب، وأفضى إلى تراجع الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية، لصالح تصاعد الميول العنصرية وروح الكراهية، لا سيّما بعد استعادة صورة الدكتاتور العادل في وسائل الإعلام، وتغييب صوت المعارضة السلمية، بحيث بدت كل مناطق الحراك من أجل الحرية والكرامة وكأنها مناطق نزاع مسلح للقضاء على بؤر تصدير الإرهاب.

بغض النظر عن تشكيلات المعارضة السلمية أو حجمها، وعن مدى نجاحها أو إخفاقاتها، فهي ليست حالة طارئة في حياة المجتمعات، تنتج عن خيانة البشر لأوطانهم وارتهانهم للأجندات الخارجية، كما يحلو للدكتاتوريات الحاكمة أن تراها وتنعتها، إنها ثمرة المجتمع المدني والتعبير عن حيويته، ومن خلال حراكها ووقفاتها الاحتجاجية وجميع حملاتها وأنشطتها التثقيفية، هي الأقدر على إثارة الرأي العام حول انتهاكات حقوق الإنسان، ونشر ثقافة التسامح والحوار وحق الاختلاف.

المعارضة السلمية هي بمثابة صمام الأمان، في وجه نزعات التعصب والتطرف والانتقام في المجتمع والحياة السياسية على حد سواء، ولن يجلب تقليص الحريات المدنية، ومصادرة أصوات المعارضين، وملاحقة الناشطين السلميين في أي مكان من القرية الكونية التي نتشارك بها جميعًا، سوى المزيد من العنف وهدر الكرامات والحقوق والأرواح. المساءلة القانونية العادلة وحدها الكفيلة بإنصاف الضحايا ونزع فتيل الكراهية من القلوب، وأن نشعل شموع الحرية والعدالة خير من أن نلعن ظلمات الاستبداد والحروب.

مقالات ذات صلة

إغلاق