يذكرني الأصدقاء الذين لا يكفون عن انتقادهم الشديد للثقافة والمثقفين، وتأكيدهم على أهمية بل وضرورة وقوف المثقفين إلى جانب الثورة، وتجميلهم إنتاج هذا المثقف الثوري أو ذاك مهما سفَّ ودنا، وشتمهم، بالمقابل، ذلك المثقف الذي يقف على النقيض، وتسفيه أعماله مهما سمت وارتقت فنيًا.. يذكرني هؤلاء بما جرى في النصف الثاني من القرن الماضي، حين احتدم السجال بين المثقفين عمومًا، ومبدعي الأدب والفن ونقادهما خصوصًا، حول ماهية الإبداع وانتمائه ووظيفته، وعمّا إذا كان من الضروري أن يكون الإبداع الفنيّ بأوجهه كافة مرتبطًا بقضايا الإنسان وشؤونه المختلفة، أو أنْ يكون حرًا، هكذا، من أي قيد كان، وظهرت حينئذ آراء متباينة، وصيغت نظريات متعددة لاحتضان تلك الآراء وقوننتها، كنظرية الفن للفن المناقضة لنظرية الالتزام وسوى ذلك، وقد سبق تلك المرحلة سجالات من نوع آخر، تناولت قضايا التجديد والمحافظة على أثر إطلاق بعض المفكرين النهضويين لمشروعهم النهضوي، وفي سياقه. وهكذا تستمر السجالات الثقافية ولا تنتهي، لتظهر في النهاية، على نحو أو آخر، جوهر منطق الحياة الذي سينعكس في الأجناس الثقافية تجديدًا وإبداعًا على غير مثال. ولتكشف سرَّ القوانين المتحكمة في حركتها، ولتفصح عن مدى أفق مسارها وانطلاقتها، ويعدّ الإنسان، دون شكّ، لولب ذلك المسار وقوّة دفع تلك الانطلاقة، فمن خلاله تتجلّى تلك السجالات المعبّرة في الحقيقة عن صراعات عميقة تدور حول مصالح محددة تطول الأفراد والمجتمعات والأوطان. ومفهوم بالطبع أنّ الإنسان اللولب هو ذلك المثقف ذو البصيرة النافذة التي ترى بحق مآل كلّ فكرة أو موقف عملي تظهره تلك السجالات؛ وعلى ذلك فقد صنّف المثقفون، وصنّفت الثقافات، فقيل عن الثقافة التي تجسّد طموحات أبناء الأمة الواحدة، وتحمل همومهم، وتستشفّ أحلامهم، إنها ثقافة وطنية. وقيل عن الأخرى التي تلامس جوانب إنسانية عامة إنها الثقافة الفعلية التي تعنى بإنسان البلد الذي تنتمي إليه، وبالإنسان عمومًا. وإذا كان الميَّالون إلى هذا النوع قد اتهموا الطرف الآخر بالجمود والتأطير والشعاراتية التي تنزع عن الفن أرديته الجميلة؛ فإن أنصار ما عرف بالثقافة الوطنية قالوا عن نظرية الفن للفن إنها تغرق في تفاصيل خاصة، صغيرة وثانوية، أو سطحية لا تلامس قضايا الأمة في عمقها، وغالبًا ما تهتم بالشكل دون المضمون، وهذا ما يقرِّبها من الثقافة العدمية، أو ذات النزعة الاستهلاكية غير المسؤولة، إلخ.. والحقيقة أنَّ ثقافة الإبداع الخالدة، سواء جاءت في قصيدة شعر أو نص نثري أو لوحة فنية أو قطعة موسيقية أو فيلم سينمائي، هي فوق كل هذه التقييمات، والمصطلحات. إنها حالة خاصة مستقلة بذاتها، رغم أنَّ تكونها يأتي عبر تفاعل تأملي هادئ وطويل بين الفنان وما ومن يحيط به، تشترك فيه روحه الشفَّافة، وذهنه اليقظ لتصوَّر ذلك التفاعل المتأمل في النهاية إبداعًا يستهويه الناس، وإن صدَّ بعضهم عنه إلى حين، فالنفس ميَّالة إلى ما ألفت واعتادت. إن المنتج الفني، في النهاية، هو حال تحيل من يقرأه أو يسمعه أو يرنو إليه، إلى حال تتفاعل معها الروح متأثرة بإيحاءاته فرحًا أو حزنًا، يصاحبهما أو يعقبهما تأمل عقلي، يدفع بالمتلقي نحو رؤية أرقى إلى الواقع المحيط وإلى أهمية العمل على تغييره وتجديده.
ومن الضروري أن نشير إلى أنّ شؤون الثقافة وقضاياها متقلِّبة غير ثابتة، كما الحياة تمامًا؛ إذ هي نامية متبدلة من زمن لآخر، فقد يتقدم، في مرحلة من المراحل، شعار ما.. على غيره، وقد يتأخّر شعار حقّه التقديم لأمر اعتراضي قاهر. ففي أواخر الدولة العثمانية كان شعار مقاومة الاستبداد هو الأعلى، والأولى، وهو في الوقت نفسه، الذي يقود القائل به إلى حبل المشنقة، وقد قاد بالفعل، أمّا في زمن الوجود الاستعماري، فقد كان شعار الاستقلال وإجلاء المستعمر عن أرض الوطن هو الأساس، وفي مرحلة أخرى كان معيار المثقف الوطني في الوقوف إلى جانب قضايا الذين يقبعون في أسفل السلّم الاجتماعي. وكل تلك المواقف ربما، وفيما هو واضح، تتبع شعارات سياسية. وهذا لا يعيب الثقافة ولا المثقفين؛ فالمثقف هو في تفكيره ورؤيته ومواقفه وطني وإنساني بآن معًا.
اليوم تتداخل المسائل وتتشابك، فمنها ما هو مصطنع، غايته المحافظة على القديم المتهرئ، ومنها ما هو طبيعي مدفوع بقوة قوانين الحياة التغييرية ذاتها. فأرواح البشرية جميعها تهفو اليوم إلى إشاعة الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية، في إطار من الحريات العامة غير المقيدة، فقد ابتعد العالم كثيرًا عن عقلية المختار وزعيم الأسرة أو القبيلة في قيادتهما؛ إذ إن المؤسسة أو الشراكة الفعلية في كل ما يهم الإنسان من نمو وتقدم وارتباط بالآخر هي التي تفرض نفسها، وهي التي تحقق نجاحات فائقة رغم كل الصراعات التي نراها اليوم على مناطق النفوذ وعلى ما يخدم ذلك النمو والتقدم، وفي البلاد التي فاتها قطار التقدم الشامل أو فوِّت عليها بفعل عوامل عديدة.
إذا كان التشديد اليوم على مصطلح الحرية ومفهومها فلأنه، من جهة أخرى مهمة، أمر ملازم للعدالة الاجتماعية التي يكمن جوهرها في حسن توزيع الثروة الوطنية، وفي الإفساح في المجال لتنميتها على نحو مستمر، وإن تكن الحرية هنا أو العدالة نسبيتين تحددهما عناصر أو عوامل كثيرة متشابكة فيما بينها. لكن يبقى لكلّ منهما حدوده الدنيا التي يتقاطع عندها الجميع، وخصوصًا حين تمنحهم القدرة على تجاوز واقعهم الصعب، أو تعينهم على النموّ والارتقاء.!
يبقى ذلك الحديث الذي أشرت إليه في البداية خوضًا في السطح، لا غوصًا في الأعماق، وهو يوازي على نحو أو آخر بعض ما أنتج حتى الآن، من أعمال إبداعية فنية أو أدبية قليلها مقبول وكثيرها غث. فالإنتاج الثمين قيد التخمُّر في أرواح المبدعين وأذهانهم.