أعادت وفاة الثائرة السورية والفنانة والشاعرة فدوى سليمان إلى الأذهان فكرةَ الثورة السلمية؛ إذ لم تتأخر صحيفة (اللوموند) الفرنسية كثيرًا، لتُعنون خبر وفاتها في 17 من آب/ أغسطس الماضي، معتبرة أن فدوى (أيقونة الثورة السلمية)، واستطردت الصحيفة -ربما لتُبرّر سبب إطلاقها تلك التسمية على فدوى- فذكرت أنها رفضت انجراف الثورة إلى الحل العسكري، وأنها كانت تؤمن بأن السلمية قادرة، ليس على دحر نظام دمشق فحسب بل جميع أنظمة الاستبداد في العالم. وعلى الرغم من أن فدوى، في مرات كثيرة، أكدت أن السلوك العنفي الذي انتهجه نظام دمشق كان الدافع الرئيس لحمل السوريين السلاحَ لحماية أنفسهم من آلة القتل الرهيبة التي لاحقتها هي نفسها في أكثر من منطقة؛ حتى اضطرت إلى مغادرة البلاد، في آذار/ مارس عام 2012، وهي التي لم تحمل سلاحًا سوى صوتها الذي كان يصدح في المظاهرات السلمية متحديًا فوهة بندقية القناص، كما تحدّث من رافقوها أو كانوا قريبين منها خلال وجودها في مدينة حمص، إلا أن ذلك التبرير لم يجعلها ترى اللجوء إلى الخيار العسكري حلًا، وأستطيع التأكيد أنها -حتى أيامها الأخيرة- ظلت تؤمن أننا “بالمحبة نقدر أن نصنع المعجزات”، وقد حاولت، خلال فترة مرضها التي امتدت قرابة ثمانية أشهر، رافقتها خلالها في مشفى في ضواحي العاصمة الفرنسية باريس، أن تُقاوم ذلك المرض بقوة داخلية عجيبة، وأستطيع القول إن الأطباء المحيطين بها كانوا في مرات عديدة يُصابون بالذهول لتلك الطاقة التي تمتلكها، فهي اعتبرت المرض عدوًا، وحاولت التعايش معه، حاولت التغلب عليه بطاقتها الداخلية، رفضت في البداية الخضوع للعلاج الكيميائي؛ لأنه كان بنظرها حلًا عسكريًا، هكذا حَرفيًا، هل كان يبدو كلامها بالنسبة إليّ نوعًا من الجنون؟ نعم، أريد أن أقرّ بأني اعتبرت ما تقوله جنونًا، وشطحًا، وعملنا جاهدين لإقناعها بأن تتقبل ذلك العلاج، لأن فيه شفاء. هل أخطأنا؟ لا أدري صراحة، لكن ما أعلمه أنها اعتبرت تلك الجرعات بمثابة سلاح كيمياوي يفتك بجسدها، تبكي بألم، وتقول قصفوا خان شيخون بالكيماوي، وقصفوني به أيضًا.
لم تكن فدوى سليمان وحيدة في النزوع إلى فكرة السلمية، كثير من السوريين الذين طالبوا بالحرية لم يُفكّروا أصلًا أن تلك الثورة النقية قد تتحول لاحقًا إلى ساحات صراع يتقاتل فيها الجميع مع الجميع، وقد خفتت أصواتهم تباعًا، فلا صوت يعلو فوق صوت الرصاص، اغتيل كثيرون منهم إما من قبل نظام دمشق، أو لاحقًا من قبل الميليشيات الإسلاموية التي اعتبرت الطرح السلمي “باطلًا” وردّدوا وهم يتسوّدون الساحة لفترات أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، ولكن أليس الحل السلمي قوة أيضًا؟ أليس الوقوف وأنت تحمل وردة أو غصن زيتون، في وجه قاتل بلا ملامح، قوة أكبر بكثير من إشهار سلاح في وجهه؟ سيؤدي القتل إلى قتل ولن يتوقف القتل أبدًا؛ لأنهم يريدوننا وقودًا لمشاريعهم، وذلك ما كانت تسعى لمنعه، فهي كانت مؤمنة أن الثورة سوف تنتصر، حين يقرر حملة السلاح إلقاء أسلحتهم وتجربة شيء جديد، تحاورت مع عسكريين منشقين ومع قادة فصائل وحاولت إقناعهم بوجهة نظرها، لكنهم لم يسمعوا، لا أدري كم كان يبدو كلامها لا منطقيًا وطوباويًا، وبخاصة ونحن نواجه ذلك الخراب كله، لكن ما آلت إليه الأوضاع في سورية قد يجعلنا نفكر مطولًا بهذا الخيار، لا أقصد بطبيعة الحال الموافقة على السلام مع النظام القاتل، ولكن مقاومته بحلول سلمية، بالشعر ربما، كما فعلت هي في آخر ثلاث سنوات من حياتها، إلى ما قبل وفاتها بأسبوعين فقط، حيث شاركت في ملتقى شعري عقد في مدينة سيت الفرنسية، حيث نشطت في العديد من المدن الأوروبية تقرأ شعرًا وتعيد تعريف الناس بعدالة الثورة السورية، ثورة الحب كما كانت تسميها، وقد نجحت في تغيير الصورة التي عملت وسائل إعلام عربية وغربية على تسويقها عن ثورة السوريين العنيفة التي يتصدر مشهدها الأول ملثمون يتوعدون ويهددون… نجحت قليلًا، لأنها كانت تغرد خارج السرب وحيدة، ولعل هذا ما جعل بعض المحسوبين على الثورة يعتبرون أن إطلاق تسمية (أيقونة الثورة السلمية) عليها لم يأت إلا بسبب انتمائها إلى إحدى الأقليات السورية، حسب زعمهم، وهم الأكثريون المتقوقعون داخل طائفيتهم، والذين يلوحون بأقلامهم بعد أن حولوها إلى خناجر يجزون بها رقاب السوريين جميعًا، وقد أفلحوا حتى الآن في تحويل السوريين إلى طوائف متقاتلة، تمامًا كما نجح النظام في تحويل الثورة السورية السلمية النقية إلى صراع مسلح.
ماتت فدوى سليمان، ولم تستطع التغلب على مرضها، لكن صوتها لم يمت، تتسلل قصائدها الهادئة لتعيد تذكيرنا كل لحظة بأن سورية التي نحلم بها لن يبنيها متقاتلون يلهثون وراء السلطة، بل يبنيها محبّون قادرون على رسم ابتسامة على وجه طفل صغير، أفقده الجنون أباه، وتبنيها نساء عظيمات لم يتحولن إلى أدوات حرب، على الرغم من كل ما مررن به طوال تلك السنوات الدامية.