ترجمات

نيو يورك تايمز: لمَ نحن بحاجة إلى الأحزاب السياسية

الأحزاب السياسية (التي تعدّ أساسية لنظم ديمقراطية قوية) أصبحت شيئًا من الأنواع المهددة بالانقراض. فقد أعرب المواطنون في البرازيل عن رفضهم لحكومتهم، وبدؤوا التظاهر ضد القادة الذين يشعرون بأنهم قد تخلوا عنهم في كثير من الأحيان. تصوير ميغل شينكاريول/ وكالة الصحافة الفرنسية – صور جيتي

خلال أقلِّ من عقدٍ، انتقل العالم من القلق بشأن الحوادث المالية، إلى القلق بشأن تحطم الديمقراطيات. وابتداءً من عام 2008، كنا قلقين إزاء الاقتصاد الذي سيتهاوى بعد ذلك، أو بشأن الأزمة المصرفية المقبلة إن كانت ستلتهم مدخرات الناس. لكنَّ الركود الكبير لم يدمْ طويلًا -كما كنا نخشى- فقد تعافت الاقتصادات الأشدّ تضررًا، أو هي بصدد التعافي.

ما لم يعدْ إلى وضع ما قبل الأزمة، هو السياسة. واليوم أصبحت الأحزاب السياسية -وهي أساس النظم الديمقراطية القوية- شيئًا من الأنواع المهددة بالانقراض. مهدّتْ عواقب الانكماش الاقتصادي الطريقَ لنجاح القادة السياسيين غير التقليديين، مثل دونالد ترامب، وجعلت بعض الأفكار التي لا يُمكن تخيّلها قابلةً للحياة، مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

أصبحت الاتجاهات الراسخة منذ زمنٍ أيضًا أقوى في الغرب. ومع ركود الرواتب، أو حتى تراجعها في الولايات المتحدة، وبريطانيا وغيرها من الديمقراطيات المتقدمة اقتصاديًا؛ ألقت الطبقة الوسطى المحاصرة باللائمة على الأتمتة والعولمة، وعدّت الهجرةَ، والتجارة الدولية من الآثار السلبية المكلفة للاندماج الدولي.

من المثير للدهشة أنَّه حتى الأسواق الناشئة ذات الاقتصادات سريعة النمو، والسجلات الممتازة لانتشال الناس من براثن الفقر، مثل البرازيل، واجهت تحديات من السكان الغاضبين الذين أصيبوا بخيبة الأمل من حكوماتهم، وتمكّنت وازدادت قوة، من خلال وسائل الإعلام الاجتماعية، وغيرها من التكنولوجيات الجديدة.

في البلدان النامية، من الشائع أنْ تكبر آمال الناس، بوتيرةٍ أسرع من قدرة الدولة على الوفاء بها؛ فالأموال دائمًا قليلة، وغالبًا ما تكون المؤسسات العامة غير فعالةٍ. لذلك على الرغم من أنَّ حياة مئات الملايين من الناس في آسيا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا آخذة في التحسن، فهذا لا يعني أنَّ الناس راضون. وقد أصبح واضحًا أنَّ التقدم الاقتصادي والازدهار لا يجلبان دائمًا الاستقرار السياسي.

إنَّ الموجة العالمية من الغضب السياسي التي تجتاح العديد من البلدان، الغنية والفقيرة على حدٍّ سواء، يغذيها أيضًا قلقٌ جديد من الفساد. في العقد الماضي، طوّرت المجتمعات التي ينتشر فيها الفساد، ويُعامل فيها كحقيقةٍ من حقائق الحياة، تعصبًا شديدًا إزاء السرقات الرسمية، وأطاحت السياسيين الذين لم يتلوثوا سابقًا، حيث نزل الناس في البرازيل، والهند، وروسيا، وإسبانيا، إلى الشوارع للتنديد بفساد أهل السلطة الأقوياء.

كثيرًا ما يكون من هم في السلطة أيضًا قادة الأحزاب السياسية التقليدية، وعندما يتم القبض على هؤلاء القادة بتهمة السرقة، تصبح وصمة عارٍ أخرى على الأحزاب التي ضعفتْ هيبتها وجاذبيتها على نحو مطرد. في هذه الأيام، لا يُنظر إلى الأحزاب السياسية على أنها أماكن طبيعية لأصحاب المثل والأفكار، بل مواطن للمخادعين المحترفين والانتهازيين المنافقين.

إنَّ ازدراء السياسة كالمعتاد -وبالتالي الأحزاب المهيمنة في الوضع الراهن- مكثفٌ، وواسعُ النطاق، وعالمي. وهذا هو السبب في أنَّ العداء للسياسة، ورفض السياسة التقليدية وممارسيها، هو شبه غريزةٍ شعبية شائعة اليوم.

تشرح حالة تيريريكا السببَ بوضوحٍ. في عام 2010 فرانسيسكو إيفراردو أوليفيرا سيلفا، المعروف مهنيًا بـ (تيريريكا المهرج)، ترشّح لمقعد في كونغرس البرازيل، وبحملةٍ عصرية كالعادة، وكانت رسالته صادقة ومباشرة: “أنا لا أعرف ما يفعله المندوب في الكونغرس، ولكن إذا أوصلتموني إلى هناك؛ فسأخبركم”. وأوضح أيضًا أنَّ هدفه هو “مساعدة المحتاجين في هذا البلد… ولكن خصوصًا عائلتي”.

في ذلك الوقت، كان من السهل تجاهل تيار تيريريكا بعدّه بادرةً متطرفة معادية للسياسة، وهو تيار لا يمكن أنْ ينشأ إلا في ديمقراطيةٍ ناشئة غوغائية مثل البرازيل. ولكن ليس لفترة طويلة. المشاعر التي قادت تيريريكا إلى النصر مماثلةً لتلك التي دفعت النجاح السياسي للممثل الساخر بيبي غريللو في إيطاليا، أو للسيد ترامب، وهو مقدّمُ برنامجٍ تلفزيوني واقعي.

تمكّن كلّ من الرجلين من تقويض سلطة الأحزاب المهيمنة. وبينما سعت حركة “خمس نجوم” التي قام بها السيد غريللو إلى استبدال الماكينة السياسية الإيطالية، عن طريق تقديم نفسه كغير منتمٍ (من خارج الجماعة) راديكالي، تعامل السيد ترامب مع السياسة التقليدية كعضو راديكالي فيها، حيث قام بعملية استيلاءٍ عدائية على الحزب الجمهوري.

نداء السيد ترامب إلى “تجفيف المستنقع” في واشنطن، وإدانة السيد غريللو الحارة لـ “الطبقة” التي رأى من وجهة نظره أنها لا تساهم في نجاح إيطاليا، ولافتات المتظاهرين في البرازيل التي تدعو الناخبين إلى “طردهم”، كلَّها أمثلةٌ تُفهم بطرق متشابهة.

في هذه الأيام، تتطلب -عادةً- الدعوةُ إلى نظامٍ سياسي جديد الإطاحةَ بالأحزاب السياسية، والقادة المنتخبين، وفي كثيرٍ من الحالات هذه هي الدعوة الصحيحة، حيث يتعين استبدال المنظمات الفاسدة وغير الفعالة، بمؤسساتٍ فعالة.

ومع ذلك، فإنَّ العديد من الناشطين يخفون سوء الفهم؛ لأنَّ الجواب يكمن في المنظمات غير الحكومية، أو في حركاتٍ فضفاضة غير تراتبية. إلا أنَّ الديمقراطيات تحتاج إلى أحزابٍ سياسية. نحن بحاجةٍ إلى منظماتٍ دائمة تفوز بالسلطة السياسية وتحكم، وتكون مضطرةً إلى التعبير عن المصالح، ووجهات النظر المتباينة، والتي يمكن أنْ تجنّد، وتطوّر قادة الحكومة في المستقبل، وتراقب أهل السلطة فعليًا.

يحتاج القادة السياسيون إلى اتخاذ موقفٍ بشأن التعليم قبل المدرسي، والأسلحة النووية، والرعاية الصحية، والزراعة، وأنْ يكون لديهم آراءٌ واضحة بشأن مكافحة الإرهاب، وتنظيم المصارف، من بين عدد لا يُحصى من قضايا السياسات الأخرى. فالأحزاب السياسية هي معسكراتُ تدريبٍ لهؤلاء القادة.

وللبقاء على قيد الحياة، يجب على الأحزاب السياسية أنْ تستعيد القدرة على إلهام، وتعبئة الناس -ولا سيما الشباب- الذين قد يستخفون بالسياسة، أو يفضلون توجيه أيّ طاقةٍ سياسية لديهم من خلال مجموعاتٍ ذات قضيةٍ واحدة. ويجب أنْ تكون الأحزابُ مستعدةً لإصلاح هياكلها، وعقولها، وأساليبها للتكيّف مع عالمٍ جديد. نحن بحاجةٍ أيضًا إلى تجديد الحزب، وتقديمه في أيّ مناقشةٍ للسياسة المعاصرة.

في العقد الذي انقضى منذ الأزمة المالية، عطلت التكنولوجيات والابتكارات الجديدة كل ما نقوم به: الأكل والقراءة والتسوق والتعارف والسفر والاتصالات. كل شيء، باستثناء الطريقة التي نحكم فيها أنفسنا. نحن بحاجةٍ إلى ابتكارٍ غير تقليدي يشدُّ الأحزاب الديمقراطية إلى القرن الحادي والعشرين.

اسم المادة الأصليWhy We Need Political Parties
الكاتب*مويسيس نعيم، Moises Naim
مكان النشر وتاريخهنيو يورك تايمز، The New York Times، 19/9
رابط المادةhttps://www.nytimes.com/2017/09/19/opinion/need-political-parties.html?mcubz=0
عدد الكلمات889
ترجمةأحمد عيشة

 

*- مويسيس نعيم: زميل بارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، وزير التجارة والصناعة الفنزويلي السابق، ومؤلف “نهاية السلطة: من قاعات المجلس إلى ساحات المعركة، ومن الكنائس إلى الدول؛ لماذا لا يكون المسؤول على ما يجب أن يكون عليه”.

مقالات ذات صلة

إغلاق