أدب وفنون

الأدب السوري يوثق حياة المعتقلات، والثورة

يتجرأ الهاجس التوثيقي، في مراتٍ عديدة، على مساس ملامح السرد المألوفة، يتغلب على نمطية بناء الحبكة والحدث؛ ليصير الحبكةَ والحدث كليهما في آن، وهذا انزياح طبيعي يفضل إحداثيات الواقع على إحداثيات المخيلة، في جغرافيا الكتابة الشائكة. إذ كيف يمكن التساهل مع إطلاق سراح المخيلة في حضورِ واقعٍ، قد يعجز التخيل البشري عن ابتكار ما يوازيه؟ وصنوف القمع في سورية هي ابتكاراتٌ واقعية تشقّ على الخيال مجاراتها، طلاسمٌ، ليس هضمها هينًا، وقبول حدوثها واقعيًا. لكن توثيقها يُفرج عن كينونتها الحقيقية، ويلغي منها شُبهة المبالغة السردية.

لعل رواية (نيغاتيف) للكاتبة روزا ياسين حسن (الصادرة عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عام 2008) استطاعت مجددًا أن تقتاد حياة المعتقلات السياسيات من عتمة الذاكرة إلى رحابة الضوء وفتنته؛ حيث تجعل الكاتبة من شهودها أبطالًا لروايتها التوثيقية، وتصير شهاداتهم في تعاقبها هي السرد والحبكة معًا. نقرأ في الصفحة 32: (وضعت بين أصابع سحر. ب. أوراق أشعلوها مستمتعين بصراخها وبرائحة جلدها المحروق. بقية البنات المعتقلات في دفعة 1987 عُذّبن بالكهرباء وبالدولاب. حميدة. ت. مثلًا، وُضعت في الدولاب دون أن يلبسوها البنطلون على الرغم من صراخها طويلًا. في نهاية التعذيب تُركت حميدة مرمية، وهي ما تزال مضغوطة بالدولاب، فيما السجان يقهقه شامتًا: لقد رأيت “كيلوتك”، لونه أبيض).

تَفْقَأ شهادات المعتقلات تلك عينَ الصمت، تطوح بعتمة أقبية فروع الأمن إلى غيرِ رجعة، فلا يظهر ثِقَلُ التوثيق على الإطلاق، ولا يطوق سرديات المعتقلات/ بطلات الرواية، بثبات مكونات اللحظة المرصودة في زمن الروي. اللحظة تتمدد لتصير من لحمٍ ودم، عندما تروي سناء. ح. المعتقلة الشيوعية في الصفحة 40 بعض مشاهداتها: (لم أعرف كيف أتى أول الليل، وعادوا لاستدعائي مجددًا، مدير السجن ومجموعة من الضباط مجتمعين في غرفة. من تحت الطميشة، استطعت أن ألمح وجيه. غ. “زوربا” ملقى على وجهه يئن، جسده مثخن بالجروح المفتوحة، الدماء تغطيه، وتنسكب منه على الأرض في بقعة كبيرة تنتشر حوله، كان يبدو في النزع الأخير، لن أنسى هيئة زوربا ما حييت)، وزوربا هو الاسم الحركي لمعتقل شيوعي من مواليد عام 1948، وأحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي. اعتقل من عام 1987 حتى العام 2001.

في حين يأخذ التوثيق لدى سمر يزبك في روايتها (تقاطع نيران) الصادرة عن دار الآداب عام 2012 طابعًا أكثر حذرًا. تبرره الكاتبة بخوفها على شهودها، وتقول إنها غيّرت حتى الأحرف التي تشير إلى أسمائهم الحقيقية، فيصير السرد متمحورًا بكليته حولها، وهي تدوّن يوميات الانتفاضة السورية في استفاضة متسلسلة. تسوق لنا في الصفحة 53 ما رواه أحد شهودها: (جلسنا في البيت المكون من غرفة واحدة، كانت جلسة مؤلمة، ولم يستطع صديقي المرهق أن يروي الكثير، لكني دونت عن لسانه ما يكفي لمعرفة كيف بدأت الأحداث في مدينة بانياس. قال “د. س.”: انطلق المتظاهرون من جامع الرحمن في بانياس، كان هذا في يوم 8 آذار/ مارس؛ حيث دعا “أ. ش” الناس بعد صلاة الجمعة، لخروج الجميع ضد الاستبداد والمطالبة بالحرية. خرج حوالي 200 إلى300 رجل من باب الجامع، وأثناء سيرهم أمام الجامع اعتقل ثلاثة أشخاص من قبل الأمن الجنائي، وساقوهم إلى قسم الشرطة، فاتجه المتظاهرون إلى قسم الشرطة القريب من كراجات النقل، للمطالبة بإطلاق سراحهم).

لكنها تتيح لشهودها الحديث بلسانهم، متى استطاعت التملص من ذاتية التدوين. تتركهم يروون لنا ملاصقتهم لوقائع الثورة في بداياتها. يسرد الصحافي م. ع. شهادته في الصفحة 115: (دخلت درعا عن طريق دكتور بيطري، ولم أدخل بصفتي صحافيًا، وكانت عناصر الجيش تتوزع على كل مفارق المدينة، والحواجز العسكرية ورجال الأمن في كل مكان. توقفنا كثيرًا للتفتيش، وكانت تلك رحلة طويلة رغم قصر المسافة، وكان لدى الجيش قوائم أسماء ينظرون فيها، يقومون بتفتيشنا، ثم يسمحون لنا بالدخول. بعد أن أجريت الحوار مع الطبيب، قمنا بالتجوال في المدينة، ثم ذهبنا إلى الجامع العمري، وكانت هناك تظاهرة، وبداية تجمع لها. رأيت معن العودات وسلمت عليه، كانت هناك قوى أمن كثيرة تنتظر الهجوم على المتظاهرين).

ليس التعذيب وحده ما يستوطن شهادات معتقلات رواية (نيغاتيف)، حيث إننا نلمح الاعتقال كيف كان يتضاءل داخل جولات قهره، بالحب حينًا، وحينًا بالغناء، وروزا ياسين حسن توثق بعضًا من ذلك، في الصفحة 72: (صوت بثينة. ت. يصدح في ممرات فرع الأمن 1، قاهرًا الصمت الوحشي، مالئًا حنايا الجدران الموحشة بإلفه غريبة تمامًا عنها. صوت بثينة كان بحق عنوانًا لسنوات الاعتقال؛ حتى لا يكاد حدث يغيب عن مرمى صوتها وكلماتها. وقت يأتي الليل، يغيب الرعب الذي يبثه عناصر الأمن بين الزنازين، وفي الممرات، تبدأ بثينة الغناء من “المزدوجات” التي كانت مليئة بالمعتقلات، ليرد عليها المعتقلون في الزنازين الأخرى). ثم عن مداواة الحب لعفونةِ جدران الزنازين المائعة في الصفحة 247: (بعد ذلك بسنوات، وفي سنة 1988، كان الحائط الفاصل بين مزدوجات فرع الأمن 1 ومنفرداته، هو الشاهد الوحيد على قصة الحب الغريبة بين عماد، وحميدة. ت. بنواة الزيتون، التي تطرق بلغة مورس، استطاع عماد وحميدة أن يلهبا ذاك الحائط بالشغف، أن يجعلا جمودَه نهرًا من الغواية والحب).

وكأن الزمن في سورية لا يتقدم ولا يتراجع، يظل متسربلًا بقمعِ سلطةٍ لم تتبدل مكوناتها لعقودٍ عديدة. فويلاتُ المعتقل لم يمسها الزمن، وقمع السلطة لمعارضيها يحدث بوحشيةٍ محفوظة؛ إذ لا فروقات بين ما كابده معتقلو عام 1987 في رواية (نيغاتيف)، وبين ما لاقاه المتظاهرون المعتقلون عام 2011 في رواية (تقاطع نيران). نَجِيْشٌ واحد لا تفرقه صفحاتٌ حفظته. تكتب يزبك عن شهادة المعتقل الأخيرة في الصفحة 285: (في فرع كفر سوسة، كان هناك جلاد يضربنا بشكل سادي، يضربنا بوحشية ثم يضحك، يضربنا ويطلق قهقهات ويدور في مكانه، ثم يعود ويضربنا ويضحك بصوت أعلى، ويجلدنا بكرباج مثل رأس الأفعى)، وتكتب حسن في الصفحة 30-31: (في يوم من أيام 1987، عُريت إحدى المعتقلات الشيوعيات بثيابها الداخلية، فيما كانت تُضرب بالكرباج أمام الملازم، وتُضرب بعيون الجلادين التي تلتهما شبقة مشتهية لعريها، وقت انتهى التعذيب رُميت الصبية في غرفة السجّان وليس في الزنزانة، كما هي العادة، وكانت الذريعة عدم وجود أماكن في الزنازين، ولربما كانت الذريعة مقبولة وسط هيجان الاعتقالات ذاك الزمن).

إن كانت المخيلة الروائية تقوم بتفكيك الواقع، وإعادة تكوينه ومنحهِ عناوين جديدة؛ فإن التوثيق يُنجز عمله المتقن في تثبيت الوقائع بأوتادٍ لا تُزحزح. كلاهما سرد، لكن السرد التوثيقي يجعلنا نعافُ المخيلة حينًا، ويبتز صمتنا في قبولنا حياةً رديئة كالتي نعيش. المخيلة تشفق على الواقع، والتوثيق لا يفعل ذلك، والأعمال الأدبية التي وثقت الحياة السياسية في سورية قليلة، لكنها مهمة في تكوين الذاكرة الحية. أن نقرأ عن واقعية المعتقل، دون أن نعيشه، أن نلمسه بأصابعٍ بعيدة عنه. تُدخلنا (نيغاتيف) جوف الأقبية المعتمة للمعتقلات الضريرة، وتدخلنا أيضًا إلى عقول المعتقلين، في الصفحة 192 نقرأ: (هناك في عتمة السجون، تعلمت هند ألا مكان للأيديولوجيات أو للآراء المسبقة، كلها تتراجع لصالح الحياة وحقيقة الإنسان. يبقى الوضع أن المعتقلة مضطرة إلى معايشة أناس في الحيز الضيق نفسه، من المكان، شاءت ذلك أم أبت. إنسان لإنسان لا غير، معتقلة لمعتقلة لا غير).

بعد ثورة عام 2011، صار التوثيق احتياجًا معرفيا يساند العمل الأدبي. صار ضروريًا لاستبعاد رواية السلطة الرسمية في أنها تحارب إرهابًا تكفيريًا، لا متظاهرين مدنيين. تدلنا يزبك في (تقاطع نيران) على فتاة في الثلاثين من عمرها، تعمل مهندسة، واعتُقلت مرتين. المرة الأولى كانت في 16 آذار، وبقيت في السجن 16 يوم، أما تهمتها في الاعتقال الثاني، فكانت التحضير لإيصال قافلة غذائية لفك الحصار عن مدينة درعا. نقرأ شهادتها في الصفحة 238-239: (السبت أخرجونا إلى الأمن السياسي، وكان الشباب يسيرون والجنازير في أيديهم، متصلة بعضها ببعض، وتهمتهم هي إيصال مواد غذائية إلى درعا المحاصرة! في فرع الأمن السياسي دخلنا، وأخذوا منا أغراضنا وسبونا. كان عناصر الأمن قساة ووضيعين، أما الضباط فكانوا ألطف منهم، ودخلت زنزانة منفردة وبقيت وحدي، كانت قذرة ومفروشة بالصراصير بشكل كامل).

يدين التوثيق الواقعَ، أو لعله وثيقةٌ لإتمام ذلك. وفي سورية يفتش عتمة الحياة قبل أن يعري قوامها، يبث حياة شهودٍ من لحمٍ ودم فوق الورق؛ فيصيرون أبطالًا مرتين.

[av_gallery ids=’95495,95496′ style=’thumbnails’ preview_size=’portfolio’ crop_big_preview_thumbnail=’avia-gallery-big-crop-thumb’ thumb_size=’portfolio’ columns=’2′ imagelink=’lightbox’ lazyload=’avia_lazyload’ custom_class=”]

مقالات ذات صلة

إغلاق