ترجمات

ذي أتلنتيك: الصين تعيد تشكيل العالم بصمت

المدى المذهل لمشروع البنية التحتية للبلاد، وما الذي تعنيه للنظام العالمي

صبية يجلسون على قطعة من ورق الستيروفوم يبحثون عن السلطعونات قبالة ميناء غوادار في الباكستان

كانت بلدة غوادار الباكستانية ممتلئة، حتى وقت قريب، ببيوت مصنوعة من رماد الفحم، رمادية اللون، يقطنها حوالي 50 ألف صياد، محاطة بتلالٍ وصحراء وببحر العرب. كانت في حافة منسية من الكرة الأرضية؛ وأصبحت الآن أحد محاور المبادرة الصينية “الحزام والطريق”، وشهدت تحولًا هائلًا نتيجة لذلك. وتشهد غوادار الكثير من مشاريع العمران: ميناء للحاويات جديد كليًا، فنادق جديدة، وطريق سريعة وسكك حديدية سريعة، تمتد على مسافة 1800 ميل تربطها بالمقاطعات الصينية الغربية غير الساحلية. وتطمح الصين وباكستان كلاهما إلى تحويل بلدة غوادار إلى مدينة جديدة تشبه مدينة دبي، وجعلها مدينة قادرة على استيعاب مليوني شخص.

تنمو الصين بسرعة لتصبح أكبر إمبراطورية تجارية في العالم. وعلى سبيل المقارنة، قدم برنامج خطة مارشال، بعد الحرب العالمية الثانية، ما يقارب 800 مليار دولار لإعادة إعمار أوروبا (إذا ما احتُسبت كنسبة مئوية من إجمالي الناتج المحلي اليوم). وفي العقود التي تلت الحرب، كانت الولايات المتحدة أكثر دولة تجارية في العالم، وأكبر مقرض ثنائي للآخرين.

الآن حان دور الصين. إن حجم ونطاق مبادرة “الحزام والطريق” مذهل. وتختلف التقديرات، لكن أكثر من 300 مليار دولار قد أُنفقت، وتخطط الصين لإنفاق تريليون دولار آخر في العقد القادم. ووفقًا لوكالة الاستخبارات الأميركية، اعتبرت 92 دولة أن الصينَ أكبر شريك لها في الصادرات والواردات في عام 2015، وهو رقم يفوق عدد الدول السبعة والخمسين التي تعتبر الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري لها. وأكثر ما يثير الدهشة هو السرعة التي حققت فيها الصين ذلك. وفي حين كان البلد أكبر المستفيدين من قروض البنك الدولي ومصرف التنمية الآسيوي، في الثمانينيات والتسعينيات، إلا أن الصين وحدها قدّمت في السنوات الأخيرة قروضًا للبلدان النامية أكثر مما قدّمه البنك الدولي.

على عكس الولايات المتحدة وأوروبا، تستخدم الصين المساعدات والتجارة والاستثمار الأجنبي المباشر بشكل استراتيجي؛ لبناء شهرتها وتوسيع نفوذها السياسي وتأمين الموارد الطبيعية التي تحتاج إليها للنمو. وتُعد مبادرة “الحزام والطريق” المثال الأوضح لهذا. فهي مبادرة شاملة لمشاريع البنية التحتية الحالية والمستقبلية. وفي العقود المقبلة، تخطط الصين لبناء شبكة سميكة من البنية التحتية في كافة أرجاء قارة آسيا، ومن خلال إطلاق مبادرات مماثلة، في العالم بأسره.

سوف يأتي التمويل على شكل قروض، وليس منحًا، كما سيتم تشجيع الشركات الصينية المملوكة من الدولة على الاستثمار. وهذا يعني، على سبيل المثال، أنه إذا لم تستطع دولة باكستان تسديد القروض؛ فبإمكان الصين عندئذ تملّك العديد من مناجم الفحم، وأنابيب النفط، ومحطات توليد الكهرباء، وبالتالي يكون لها نفوذ هائل على الحكومة الباكستانية. وفي الوقت الحالي، تمتلك الصين حقوق تشغيل ميناء غوادار لمدة 40 عامًا.

تُعتبر مبادرة “الحزام والطريق” أكبر مبادرة سياسية خارجية للصين حتى اليوم، لكنها تختلف عن برنامج خطة مارشال. وبكين لا تقوم بذلك بدافع الإيثار، أو بدافع رغبة لتأمين الاستقرار في البلدان التي تقدّم قروضًا لها. لماذا إذًا تنفق المبالغ الطائلة هذه على جيرانها؟ على سبيل المثال لا الحصر، تعتمد الصين اعتمادًا كبيرًا على ساحلها الشرقي ومضيق (ملقا) قرب سنغافورة لاستيراد وتصدير السلع من وإلى أراضيها الشاسعة، ومثالًا على ذلك، أكثر من 80 بالمئة من نفطها يمر عبر المضيق. لذلك يُعدّ بناء خطوط تجارة عبر باكستان ووسط آسيا أمرًا منطقيًا.

تساعد مبادرة “الحزام والطريق” الصينَ في استثمار احتياطها النقدي الهائل، وتشغيل الكثير من الشركات الخاملة المملوكة من قبل الدولة. كما أن لهذه المبادرة آثارًا جانبية إيجابية بالنسبة إلى بكين، إذ يقول بعض المسؤولين الحكوميين الصينيين إنها أُدرجِت لمنافسة الولايات المتحدة تحديدًا. وعلى الأقل، فهي تخلق نفوذًا يجعل الكثير من البلدان مدينة اقتصاديًا للصين. ماذا يعني هذا كله إذًا، بالنسبة إلى “النظام الدولي الليبرالي” الذي بذلت الولايات المتحدة ما بوسعها لإنشائه ودعمه للعقود السبع الماضية؟ التأثير ليس سيئًا تمامًا.

إذا كان الهدف من ذلك النظام هو تأمين الأمن والازدهار، فهنالك طرق يتممه بها سخاء الصين. فالبلدان التي تتاجر بشكل أكبر، عادة ما، تخوض معارك أقل، ليس مع شركائها التجاريين وحسب، بل مع دول العالم بشكل عام. ولذلك تساهم الصين في الحفاظ على السلم الدولي بطريقتها الخاصة. ومع ذلك، حتى لو اشتعلت حرب صغيرة بين الولايات تحت معاهدة “السلم الصيني” -وهي حقبة كانت فيها العديد من الولايات الصغيرة “الثرية” مدينة بالموارد المالية للصين في كثير من القضايا الأخرى، من مكافحة الإرهاب إلى فرض عقوبات على البلاد التي على خلاف مع الغرب- فإنّ الولايات المتحدة ستجد صعوبة أكبر بفرض إرادتها.

كثيرًا ما تكون الصين المستثمر الأكبر في البلدان التي ينبذها آخرون –لأنها تُدار من قبل ديكتاتوريين فاسدين لا يحترمون حقوق الإنسان- مثل زمبابوي وكوريا الشمالية والنيجر وأنغولا وبورما. وأوضح الرئيس الأوغندي، يويري موسيفيني –وهو الذي لا يعير حقوق الإنسان أي اهتمام- أنه يفضل الاستثمار الصيني؛ لأن الصينيين “لا يطرحون كثيرًا من الأسئلة”، ولأنهم “يجلبون أموالًا كثيرة”. وبطبيعة الحال، في حين أن الولايات المتحدة ودول أوروبا تصر على معايير عالية لمشاريع المساعدات الخاصة بها في الوقت الحالي، إلا أن سجلات شركاتها وحكوماتها فظيعة في انتهاكات حقوق الإنسان والحفاظ على البيئة، عندما ذهبت إلى الهند وأفريقيا وأميركا اللاتينية، في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

المعايير الصينية، في ما يخص سلامة العمال والحفاظ على البيئة، كثيرًا ما كانت سيئة للغاية في أولى استثماراتها الخارجية. وفي بعض المناطق، ما تزال الشركات الصينية تترك فوضى من عمال مناجم قليلي الأجر، وغابات مدمرة، وأنهار ملوثة. لكن الصين تتعلم بسرعة. ففي عام 2017، نشرت الحكومة الصينية إرشادات جديدة أكثر صرامة للمستثمرين الخارجيين. ويريد البنك الاستثماري الجديد للبنية التحتية تطبيق المعايير العالمية، كما أن العديد من الشركات الصينية –بما في ذلك الشركة الوطنية للنفط الضخمة- تتحسن بشكل سريع.

إذا استمرت الحملة الجيواقتصادية الصينية، ستكون الإرث الأكبر لها، وسيكون لها تأثير هائل على العالم، وليس بالضرورة أن يكون سلبيًا بشكل كامل. وبما أن الغرب لا يستطيع إنفاق تريليون دولار على تطوير البنى التحتية للبلدان في منافسة جديدة وكبيرة، فقد يكون أفضل خيار لها أن تنضم إلى هذه القوة الهائلة وتشكلها. وإذا كانت مبادرة “الحزام والطريق” ناجحة؛ فستكون الطريق أكثر سلاسة، وسيتم تشغيل الخدمات اللوجستية بشكل أسرع، وستكون البلدان التي قاطعتها الأسواق العالمية قادرة على زيادة تجارتها. وإذا كان البحث المذكور أعلاه صحيحًا؛ فسيؤدي ذلك إلى حروب أقل بين الدول، على الرغم من أنه سيجعل العديد من البلدان الصغيرة مدينةً للصين. وأكد الرئيس (شي) في زيارتيه للولايات المتحدة في عامي 2015 و2017، وفي مؤتمر دافوس، على أن الصين ترغب في نظام دولي أكثر إنصافًا، لكنها لا تريد أن تفكك النظام الدولي. ومن خلال تشجيع الصين على رفع مستوى العمل وحقوق الإنسان والمعايير البيئية لمشاريعها؛ يجب على دول العالم إرغامه على التقيد بذلك.

 

اسم المقال الأصليChina Is Quietly Reshaping the World
الكاتبAnja Manuel

آنيا مانويل

مكان النشر وتاريخهThe Atlantic 18-10-2017،
رابط المقالةhttps://www.theatlantic.com/international/archive/2017/10/china-belt-and-road/542667/
ترجمةمروان زكريا

 

مقالات ذات صلة

إغلاق