تحقيقات وتقارير سياسية

كيف صارت سورية “سورية الأسد”

مع بداية حكم البعث في سورية، في ستينيات القرن الماضي؛ بدأت سيرورة تفكيك الدولة السورية، والعبث بمكوناتها الاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية ومؤسساتها الدستورية والمدنية.

كانت المرحلة الأولى من حكم البعث، والتي امتدت من آذار/ مارس 1963 وحتى تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، هي المرحلة التي حدثت فيها عملية تأميمِ الصناعة الوطنية، وجعلِ الاقتصاد الوطني مستوردًا للسلع الغذائية والنسيجية وغيرها، بعد أن كان مُصَدِّرًا لها، وكذلك “تأميم الجيش” وإفراغه من الكفاءات الوطنية المدربة، وتحويله من جيش وطني/ مهني إلى جيش عقائدي/ طائفي، ممهدًا بذلك لهزيمة حزيران/ يونيو 1967. وإذا ألقينا نظرة على ما قام به النظام الجديد، من تأميم للصناعات الوطنية التي كانت تُشكل العمود الفقري للاقتصاد السوري الناشئ في أعقاب الاستقلال، والذي شمل 177 شركة يُقدر رأسمالها في ذلك الوقت بـ 30 مليون ليرة سورية، ومن أهمها صناعات النسيج والإسمنت والزجاج والصناعات الغذائية، والتي كانت شركات وطنية مساهمة، وهذا نفسه ما حصل لشركات التأمين التي فاق عددها الـ 70 شركة، لما يقارب 4 ملايين نسمة وقتذاك، بينما اليوم (لغاية2011) هناك 13 شركة تأمين لنحو 22 مليون نسمة؛ وذلك نتيجة لضعف النشاط الاقتصادي من جهة، واحتكار متنفذي النظام وشركائهم للقطاع المالي والتأميني من جهة ثانية. وكان من نتيجة ذلك مغادرة عشرات المستثمرين البلاد وتهريب ما يُقدر بـ 800 مليون ليرة سورية من أموالهم، خوفًا من أن يطالها التأميم.

مما تقدم؛ يتضح حجم الأموال التي تم تهريبها، وأثر ذلك على قوة الاقتصاد الذي لحقت به خسائر فادحة، ومما زاد من حجم هذه الخسائر، هجرةُ الخبرات الاقتصادية والفنية والإدارية، والتي لا تقل أهمية عن الكتلة النقدية التي خرجت من الاستثمار، إضافة إلى تسليم إدارة هذا القطاع للمحازبين والأتباع الذين أكملوا مهمة تخريب هذه المصانع والشركات؛ نتيجة نقص خبرتهم، وقلة معرفتهم، وبخاصة أنه جيء بهم من أماكن لا علاقة لها البتة بالمهمات التي أُوكلت إليهم.

أما المرحلة الثانية، والتي بدأت بوصول حافظ الأسد إلى السلطة، واستيلائه على الحكم في خريف 1970، وكانت المرحلة الأخطر في تاريخ سورية، وإذا كان التأميمُ الاقتصادي أبرزَ سماتِ المرحلة الأولى؛ فإنّ المرحلة الثانية هدفت إلى تأميم حركة المجتمع، ومصادرة حرية العمل الديمقراطي، داخل منظماته التي استبدَلها بمنظمات شكلية (صورية)، بدءًا من تأميم الأحزاب السياسية، ووضَعَها في إطار ما سُميَّ (الجبهة الوطنية التقدمية) بقيادة حزب البعث، والتي تنازلت عن حقها في العمل السياسي الفعلي، عند قبولها التخلي عن العمل بين الشباب (الطلاب)، ولم يكن ما يتناقله السوريون من نكتة على سبيل الدعابة: (الحزب الشيوعي السوري لصاحبه حزب البعث العربي الاشتراكي) إلا في هذا السياق، وتعبيرًا عن المرارة وفقدان الأمل، وتفكيك مختلف جمعيات المجتمع المدني، من اتحادات عمالية وفلاحية وطلابية، وكذلك مختلف النقابات المهنية (مهندسين، أطباء، محامين)، وكذلك الأندية الرياضية والاجتماعية والفنية، وإلحاقها جميعًا بالقيادة القطرية لحزب البعث، تحت مسمى “المنظمات الشعبية”.

في 18 شباط/ فبراير 1971، أصدر حافظ الأسد المرسوم التشريعي رقم 38 الناظم للحركة الرياضية، وانبثق عنه الاتحاد الرياضي العام الذي أصدر مكتبه التنفيذي القرار رقم 59 في 18 آب/ أغسطس 1972 القاضي بدمج الأندية الرياضية في سورية؛ وبهذا أصبحت الأندية الرياضية تتبع بشكل مباشر لمكتب الشبيبة والرياضة، في القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، ومكاتبها الفرعية في المحافظات، ويترأسها أعضاء قيادة فروع الحزب الذين لا يُشترط أن يكونوا من الوسط الرياضي، أو أن يكون لديهم أيّ معرفة بذلك.

بينما كان “المجلس الأعلى لرعاية الشباب” هو من يتولى المهمة قبل ذلك، وخارج أُطر التسييس والأيديولوجيا، وكان يضم خيرة الخبرات الرياضية، من قدماء اللاعبين المعروفين، وكبار الإداريين المؤهلين الذين خدموا في الحقل الرياضي، والحكام، والأكاديميين المختصين.. وكان يشرف على هذا القطاع الشبابي المهم ويرعى شؤونه.

أما الأندية، فكانت “الهيئة العامة” لكل نادٍ هي صاحبة القرار، تنتخب مجالس إدارتها ومسؤولي النشاطات فيها، بطريقة ديمقراطية وبالاقتراع السري، تحت إشراف ممثل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وكانت تُنظم بذلك محاضر جلسات موَّثقة من الجهة المشرفة. ويحق لعدد من الأعضاء (حسب ما ينص النظام الداخلي) بالدعوة إلى انعقاد الهيئة العامة، في أيّ وقت يرونه ضروريًا، من أجل حجب الثقة عن مجلس الإدارة، أو عدد من أفراده عندما يشعرون أنهم مقصرون في أداء المهمات التي انتُخِبوا من أجلها، وهذه عشناها ومارسناها في أنديتنا التي كنا ننتسب إليها.

في مقابل الحياة الديمقراطية التي كانت تتمتع بها الحركة الرياضية، جاء التنظيم الجديد ليُطبَق المثل القائل: “من لا يملك يُعطي لمن لا يستحق”؛ فأصبح عضو قيادة فرع الحزب، الغريب عن هذا القطاع غالبًا، ولا معرفة له بمشكلات الرياضة ولا بهموم الرياضيين، يُعَيّن لجان هذه الأندية من خلال قوائم مُغلقة، وغالبًا ما تفوز بالتزكية، ويتم اختيار أعضائها من الأتباع، بغض النظر عن كفاءتهم وخبراتهم، وما يمكن أن يقدموه لرفع شأن الرياضة وتحسين مستواها، والارتقاء بها لحجز مكانها في المنافسات القارية والدولية؛ الأمر الذي أدى إلى ابتعاد أو إبعاد خيرة الرياضيين من لاعبين وإداريين ومدربين عن الملاعب، وقد انعكس ذلك على تراجع الحركة الرياضة، وأدى إلى ابتعاد الجماهير الرياضية التي كانت تَغُصُ بها الملاعب، عن متابعة النشاطات، وهذا ما كان يمكن ملاحظته في السنوات الأولى التي أعقبت القرارات الجديدة، وأكثر ما تتضح في المدن الصغيرة، وقد أُعطي مثالًا على السويداء، مدينتي الصغيرة التي كان عدد سكانها في ستينيات القرن الماضي، لا يتجاوز خمسة وعشرين ألف نسمة، كانت تضم ثلاثة أندية رياضية (الجبل، الفتيان، الجماهير)، والشيء نفسه، ينطبق على توءمها (مدينة درعا)، وأنديتها الثلاث (الوثبة، الطليعة، الرشيد) الذين خَرّجَوا العديد من اللاعبين المتميّزين بمختلف الألعاب الرياضية، إضافةً إلى رياضة مدرسية ناشطة، كانت بمنزلة الرديف لهذه النوادي، تضخ الدماء الشابة في شرايينها، وهذه تتابع رعايتها وصقل مواهبها، علاوة على جماهير المشجعين التي كانت تَغُصُ بهم الملاعب، والذين تقلصت أعدادهم على نحو لافت، مع فقدان عامل المنافسة.

في تلك المدينة الصغيرة بعدد سكانها، الكبيرة بطاقات شبابها ومواهبهم -مثلها في ذلك، مثل باقي المدن السورية- كان هناك، إضافةً إلى الأندية الرياضية المشار إليها، نادٍ رابع، هو “نادي الفنون الجميلة بالسويداء” الذي خرّج أجيالًا، أبدعت في شتى مجالات الفنون، ففي الفنون التشكيلية، خرّج النادي فنانين على صعيد الوطن، بل تجاوزوه إلى الصعيد العربي والدولي، أما على الصعيد الموسيقي، فكان يحوز على فرقة موسيقية، توازي فرقة الإذاعة والتلفزيون في ذلك حين، سواء من حيث القدرات الفنية أو عدد العازفين، وعلى صعيد العمل المسرحي، كان لديه فرقة مسرحية، قدمت عروضًا نافست من خلالها فرقة المسرح القومي الناشئة في تلك الأيام. كان هذا مثالًا من واقع مدينة صغيرة، وقس ذلك، على مستوى المدن الكبرى، بل على مستوى مساحة الوطن.

وأخيرًا، من كل ما تقدّم؛ نرى كيف مَهّدَ حافظ الأسد لتأميم الدولة، وجعلها ملكية خاصة، تحت مُسمّى “سورية الأسد”، بعد أن أقام هياكل مُفرّغة من مضامينها، ابتداءً من تشكيل “مجلس شعب” وزّع مقاعده بطريقة الرشوة لكسب الأتباع، والذي رأى الكثيرون أنه عودة للحياة البرلمانية (التي كانت خدعة انطلت على الكثيرين!)، وقيام جبهة سياسية، تضع الأحزاب القومية والاشتراكية في قفصٍ، مفتاحه بيده، تلك الأحزاب التي تَخَلّت عن مستقبلها، عندما وافقت على أن تتخلى عن الشباب، في مقابل بعض المكاسب الشخصية لقادتها، وأخرى “أيديولوجية” قومية واشتراكية، أوهموا أنفسهم بها، من خلال رفع شعارات الوحدة العربية، بالنسبة إلى القوميين منهم، أو بناء الاشتراكية، بالنسبة إلى الشيوعيين، ووقوفهم وحليفهم (حزب البعث) مع المعسكر الاشتراكي، في جبهة معادية للإمبريالية العالمية. كل هذا مَهّدَ لدستور 1973 الذي توّجَ ما بدأه بإحكام قبضته على كل شيء، عندما نصت المادة الثامنة منه، على أن “حزب البعث العربي الاشتراكي هو القائد في المجتمع والدولة”. وفي ظِل هذا المناخ الجديد؛ سُدّت الآفاق في وجه السوريين عامة، والشباب خاصةً، وهم ينبوع الأمل وبناة المستقبل، وفُرض عليهم العبور من باب لا ثانيَ له، هو سلطة البعث، ومنظماتها الشعبية المغرقة بالفساد والمحسوبية، وسيطرة الأجهزة الأمنية عليها، وقتلت روح المبادرة لديهم، وقضت على كل إمكانية، لتطوير مهاراتهم وإبداعاتهم الفكرية والأدبية، إن لم تتغنى ببطولات السلطان، ومثلها إبداعات الفنانين والرياضيين، في مجتمع عسكري، يقوم أساسًا على الطاعة والولاء.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق