أدب وفنون

قاضي الإعدام

عندما رجع القاضي المتقاعد من رياضة الجري صباحًا إلى بيته، عثر على كُتيّب صغير في صندوق البريد في مدخل البناء.

تصفح أوراقَ الكتيب على عجل وهو يصعد الدرجات، وانتبه إلى وجود صور شخصية لمجرمين تم إعدامهم، خلال مهنته الطويلة كقاضٍ، أعلى كلّ صفحة، وبعض المعلومات أسفلها. لم يهتم القاضي كثيرًا، وخمّن في سرّه أن شعبة الإحصاء في القصر العدلي قد أرسلتْ إليه وإلى بقية الزملاء هذا الكتيّب، ضمن نشاطاتها المعتادة. رمى الكتيب لا مباليًا به على مكتبه، ثمّ أخذ دوشًا دافئًا، وجلس مرتديًا بُرنسه القطني يتسلى بإلقاء نظرات سريعة على عناوين الجرائد مع كوب شاي ساخن.

بعد ساعة، وما إن جلس القاضي المتقاعد في مطعمٍ قريب ناويًا تناول طعام الفطور، حتى اقترب منه رجلٌ غريب، وعندما وصل إليه، صفعه بلؤم، تحسس القاضي خده متألمًا ومندهشًا، بينما الغريب يميل إليه ليقول له بحقد: أنا المجرم عواد يحيى، أعدمتني منذ ثلاثين عامًا، ولو أنكَ لم تحكمني بالشنق؛ لكنتُ قد عشتُ لأموت هذا اليوم في ظروف طبيعية، كان يجب أن تعثر على حلٍّ آخر لي غير الشنق، رجعتُ إلى الحياة في اليوم الذي كان يجب أن أموت به طبيعيًا، لأعيش الثلاثين عامًا التي حرمتني منها، وسوف أمضيها بصفعكَ كلما شاهدتكَ، لقد حلّتْ عليك لعنة المشنوقين.

ابتلعته ثيابه، وهو يراقب الرجل الغريب يمضي مبتعدًا، بينما الحيرة تفتك بملامح وجهه، لم يتناول القاضي المتقاعد فطوره، إنما رجع مسرعًا إلى بيته، وثمّة شعور غامض يتجول داخله، وكأن جسده بيتٌ مهجور يتجول داخله شبح.

التقط ذلك الكُتيب عن طاولته وهو يلهث، قلّب الصفحات بأصابعه المرتجفة، ثمّ انتبه إلى صورة الرجل الذي صفعه توًّا، وكانت في الصفحة الرابعة، وفي أسفلها بعض المعلومات عن هذا المجرم.

(المتهم عواد يحيى، قاتل، تم إعدامه في تاريخ كذا وكذا. ملاحظة: لو أنه بقي على قيد الحياة؛ لتوفي في ظروف طبيعية بتاريخ كذا وكذا).

ارتجف جسده رعبًا، التاريخ الوارد في الملاحظة يوافق هذا اليوم فعلًا، هذا الكُتيب ليس من شغل مكتب الإحصاء في القصر العدلي، إنه شغل الأشباح، سقط أرضًا على ركبتيه، كان يحاول أن يفهم ما يحدث له، شيء لا منطقي رشّ ضبابًا سميكًا في عينيه، ومن عينيه تسلل هذا الضباب إلى داخل دماغه.

احتفظ بهذا السرّ لنفسه، خشي أن يخبر أحد أصدقائه، فيصفه بالجنون، مرّتْ الأيام، وعواد يحيى يعترضه حِينًا بَعْدَ حِينٍ، ليسدد إلى وجهه صفعة قاسية.

بعد أسابيع قليلة، اعترضه رجلٌ آخر في الشارع، صفعه وهو يصرخ بحقد: أنا ميمون عبد القادر، أصدرتَ حكمًا بشنقي منذ سنوات، ولو أنني لم أمت شنقًا وقتها؛ لبقيتُ على قيد الحياة حتى هذا اليوم لأموت بشكلٍ طبيعي، رجعتُ إلى الحياة لأعيش السنوات التي حرمتني إياها، ولأمضيها بتوجيه الصفعات إلى وجهك، تبًا لك، كان عليك أن تعثر على حلٍّ آخر لي غير الشنق.

ذهب ميمون مع صدى ضحكاته، بينما ظلّ القاضي المتقاعد مرميًا على الأرض، بعد الصفعة التي تلقاها، يتأمل السماء، كانت السماء غامضة، كانت الغيوم تتخذ أشكالًا لا تشبه أيّ شيء.

جرّ رجليه إلى بيته، وفي الصفحة السادسة من الكُتيب، عثر على صورة ميمون عبد القادر، ثمّ قرأ أسفلها المعلومات التالية: (المتهم ميمون عبد القادر، قائد عصابة، تم إعدامه في تاريخ كذا وكذا، لو أنه بقي على قيد الحياة؛ لتوفي بشكلٍ طبيعي في تاريخ كذا وكذا).

أيضًا، في هذه الملاحظة انتبه القاضي المتقاعد إلى أن التاريخ الذي كان يجب أن يموت فيه هذا المتهم بشكلٍ طبيعي، يصادف يومه هذا تمامًا.

– أيّ شيطان صنع هذا الكُتيب؟

ردد، وحلقه جاف، أغلق الكُتيب وراح يضرب به جبينه، ضربات هستيرية، صار يهذي، ينطق بكلمات غير مفهومة، مشى مترنحًا تتقاذفه أشياء بيته حتى المطبخ ليشرب الماء.

في الأشهر التالية، صار سجينَ بيته نادرًا ما يغادره، يرمق كثيرًا بخوف هذا الكتيب، وكأنه كابوس من لحم ودم، صار يدخن ويشرب القهوة، ولطالما في حياته سابقًا كره التدخين والمدخنين وشاربي القهوة، كان ينحُل ببطء وذقنه تزداد كثافة ببطء، بينما عواد وميمون يعترضان طرقاته، على قلة خروجه من بيته، ليصفعاه ثمّ يمضيان بلا مبالاة.

صار ينحني ساعات على الكتيب، يدقق بتلك الملاحظات المقتضبة تحت كلّ صورة من صور المجرمين المشنوقين في كل صفحة، يدقق في التاريخ المفترض للوفاة الطبيعية؛ ليستنتج متى سوف يرجع إليه هذا المجرم أو ذاك.. كان يهمس في عزلته الداكنة: إنه الكُتيب المقدس للجحيم، لعنة مرعبة حلّتْ عليّ.

ظهر ثالثهم بعد أشهر، لينضم إلى عواد وميمون بهواية صفع القاضي المتقاعد، باغته في مدخل البناء، كان وجه القاضي المتقاعد شاحبًا، همس مستسلمًا لقدره المؤلم: أنت المتهم جابر حميد، أصدرتُ بحقك حكمًا بالشنق منذ سبع سنوات، ولو أنكَ بقيتَ على قيد الحياة؛ كان يجب أن تتوفى اليوم بظروف طبيعية، وها أنت الآن ترجع إلى الحياة لتعيش السنوات التي حرمتكَ منها وتقضيها بصفعي.

– الزملاء المشنوقون وفروا عليّ شرحًا طويلًا، كان عليكَ أن تعثر على حلٍّ آخر لي غير الشنق. قال له بكراهية، وهو يسدد صفعة قاسية قذفتْ القاضي المقاعد مترين خلفًا.

مثل طفل مقهور، بكى وهو يزحف على أطرافه فوق الدرجات ليدخل بيته. يومًا بعد يوم.. لا شيء يفعله سوى الاستلقاء على سريره، والبكاء ساعات، والتوسل إلى كل الأشياء أن تساعده، إلى الله والأنبياء والقديسين، التوسل إلى السماء.. إلى المزهرية.. إلى الخزانة.. إلى النافذة.. إلى السجائر.. إلى فناجين القهوة، والبارحة إلى صنبور الماء، ودائمًا كان يتوسل إلى هذا الكُتيب، وإلى المجهول الذي صنع هذا الكُتيب علّه أن يرحمه.

كان يلمح دائمًا من نافذته عواد وميمون وجابر، يتمشون بين العابرين في الشارع.

المشنوقون، بسبب أحكامه حين كان قاضيًا خلال عقود، سوف يرجعون الواحد تلو الآخر، في الأيام التي كان يجب أن يموتوا فيها بشكلٍ طبيعي، ومجرمٌ بعد آخر، سيصير عاصمة للصفعات في هذا الكوكب الملعون.

قبل نهاية هذه السنة، رنّ هاتفه عدة مرات في المساء، لكنه لم يرد، في الرنين الأخير أخذ القاضي المتقاعد السماعة بوهن إلى أذنه، ليتحدث متعبًا.

  • مراحب يا حب، انتظركَ منذ الصباح أمام بيتكَ، ولم تنزل حتى الآن، أنا قاسم عزو…
  • أعرفكَ. تنهد بحسرة وأردف القاضي المتقاعد بدموع صامتة: لقد حكمتكَ شنقًا منذ عقدٍ ونصف، كان يجب أن تعيش حتى اليوم، لتموت بشكلٍ طبيعي، وبمناسبة موتك الطبيعي الذي لم يتم، الآن رجعت إلى الحياة لتعيش ما فاتك من سنوات، بسبب شنقي لك.
  • كان عليك أن تعثر على حلٍّ آخر لي غير الشنق، أنتظركَ في الأسفل مع الشباب، لا تتأخر، يا حب..

قبل أن يغلق السماعة، صفق قاسم بكفيه بقوة جانب الهاتف؛ فارتد وجه القاضي عن السماعة، وكأنه فعلًا قد تعرض توًّا لصفعة قاسية.

لأيام، حتى ليلة رأس السنة، كان يلمحهم من نافذته، يتجولون بين الناس في شارعه، عواد وميمون وجابر وقاسم.

فكر بشكلٍ جدي أن ينتحر، خلال هذه الأيام، وهو ينقل بعض المعلومات من الكُتيب على ورقة بيضاء، عندما انتهى؛ تأمل من فوق سيجارته الورقة التي انهمك في كتابتها لساعات.. استنتج أنه في العام الجديد الذي سيحل منتصف الليلة، سوف يرجع إليه ثلاثة مشنوقين غير الأربعة الذين يتجولون في الخارج الآن.

– لم أعد أحتمل..

لساعات، شعر أنه يختنق، كان متأكدًا أن صاحب هذا الكُتيب قد لف حول عنقه حبلًا غليظًا، عندما أرسله إلى صندوقه البريدي، حبلًا لم يشد إلى آخره، ليختنق ببطء ولا يموت.

ضاق صدره به؛ فنزل ليمشي بين الناس حتى ساحة المدينة، حيث كانوا يحتفلون بوداع العام القديم واستقبال الجديد. لم يعرفه أحد منهم، فقد تغير شكله كثيرًا، بدا قريبًا بهيئته من المتسولين.

فجأة، انتبه القاضي المتقاعد في الازدحام إلى عواد، أخذ سكينًا كانت على طاولة بائع الحلوى، وأسرع يتصادم بالناس إلى عواد ليطعنه، ميمون كان قريبًا فطعنه أيضًا، ثمّ لمح جابر فهرول إليه ليطعنه، أما قاسم فطارده حتى شارعٍ قريب وطعنه بوحشية، والناس يتراكضون حوله ويصرخون بخوف. حاصره بعضهم وقيدوه، كان يهذي والدماء تنقط منه، جاءتْ الشرطة وأخذته.

استمرتْ محاكمته لأشهر، تابع أخبارها أهلُ مدينتنا، كانت قصة غريبة، قاضٍ متقاعد يختفي عن الحياة لمدة قصيرة ثمّ يرجع ليقتل أربع رجال بطعنهم، ليلة رأس السنة في الساحة.. القاضي الشاب حكم عليه بالإعدام.

لم يأبه العجوز المتقاعد، ردد عاليًا في الجلسة الأخيرة، مبتسمًا بثقة: سوف تندم عندما أرجع إليكَ.. كان عليكَ أن تعثر على حلٍّ آخر لي غير الشنق. وأخذوه مع ضحكاته المجنونة إلى حبل المشنقة.

الذين نفذوا حكم الإعدام شنقًا به، أقسموا للصحفيين مستغربين إنه تعامل مع المشنقة بلا اكتراث، وإن شنقه كان بالنسبة إليه مجرد تدخين سيجارة.

عزيزي القارئ، انتهتْ قصتنا هذه هنا، وقد حدثتْ فصولها في مدينتنا منذ فترة قصيرة، لكن.. انتظر، لا تذهب.. عزيزي القارئ، أرجوك، هل تستطيع أن تقدم لي معروفًا؟ أتمنى أن تساعدني، أريد منكَ فقط إن كنتَ تعرف العنوان البريدي لأيّ قاضٍ في القصر العدلي أن تخبرني به، لأرسل له هذا الكتُيب الذي انتهيتُ توًّا من صناعة نسخته الثانية.

 

*اللوحة للفنان السوري دلدار فلمز

مقالات ذات صلة

إغلاق