بعد الحديث لشهور عن استراتيجية جديده لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يبدو أن عجلة هذه الاستراتيجية قد انطلقت من بغداد، آخر محطة كانت بها قبل أن تنسحب من المنطقة وتتخلى عنها إدارة الرئيس أوباما.
من دون مقدمات طويلة، تحطّ طائرة سعودية تعود لشركة (ناس) في مطار بغداد الدولي، وبعدها طائرة للخطوط الجوية السعودية الرسمية، وتُعلن السعودية أنها تُشارك في معرض بغداد الدولي بوفد من مئتي رجل أعمال من مختلف القطاعات.
دون أي ضجيج إعلامي يتوجه حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية إلى المملكة العربية السعودية لتختفي اتهامات العبادي للسعودية بدعم الإرهاب ويوقع على إنشاء مجلس تنسيق أعلى وبحضور أميركي واضح حيث حضر الاجتماع وزير خارجية إدارة ترامب السيد تيرلسون.
كان يمكن قراءة الحدث على أنه مجرد تعاون ثنائي بين بلدين متجاورين يتشاركان في كثير من القضايا المشتركة، لو أن السيد العبادي عاد إلى بغداد بعد زيارته للملكة العربية السعودية، لكن العبادي وبدون إعلان مسبق قام بزيارة خاطفه لكل من مصر لعدة ساعات، حيث التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ومنها انتقل إلى الأردن، حيث التقى الملك الأردني عبد الله بن الحسين، حيث أفادت السيدة صفية السهيل السفيرة العراقية في عمان أن رئيس الحكومة العراقية يحمل معه مشروع رؤية عربية جديدة لطي صفحة الماضي من خلافات وحروب بين دول المنطقة والتركيز على التنمية وبسط الأمن والاستقرار، خصوصًا أن الصراعات لم تجلب للمنطقة سوى الدمار والتخلف.
جولة حيد العبادي لم تنته بعد، ومازال على برنامجه زيارة كل من تركيا وإيران حيث صرّح مستشار المرشد الأعلى للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي بأن العبادي سيصل طهران قريبًا في “زيارة مصيرية” مشددًا على أن العلاقة بين البلدين إستراتيجية.
حين تصف إيران الزيارة بالمصيرية، هذا يعني أن الرسالة الأميركية قد وصلت، وأنها مجرد أيام ويطبق الحصار الأميركي على إيران من جديد، حيث كانت الإشارة الأولى التي أطلقها وزير الخارجية الأميركية من السعودية وقبل أن يغادرها العبادي حيث طالب تيرلسون المليشيات الإيرانية بالخروج من العراق، هذا التصريح الذي ردت عليه إيران قبل أن تردّ عليه حكومة بغداد بعد يوم كامل، مُندّدةً على خجل بأن هذا تدخل بشؤون العراق.
من جانب أخر وزاوية أخرى، ستكون تركيا أمام خيارين، إما الالتزام بالمشروع الأميركي في حصار إيران، أو أن ملف البنوك التركية سيتم فتحه، حيث أشارت وزارة الخزانة الأميركية بوجود مخالفات لدى ست بنوك تركية ستعرضها لعقوبات بمليارات الدولارات، الخيار الثاني هو الانفتاح على العراق والموافقة على حصار إيران، والاكتفاء بنصيبها من بغداد الذي لن يكون بحجم نصيبها من إيران، حيث العقود الموقعة في الآونة الأخيرة بين إيران وتركيا تجاوز خمسين مليار دولار. إضافةً إلى أن أميركا بيدها أوراق ضغط إضافية على تركيا في الشمال السوري، وعلى الأغلب أن الحكومة التركية لن تجد لها سبيلًا سوى الموافقة على المشروع الأميركي.
لم يطالب تيلرسون الميليشيات الإيرانية بالانسحاب من سورية، لكن الإدارة الأميركية مازالت منذ أسابيع تعيد فتح سجلات حزب الله الإجرامية، وكان آخر ما أعلنته هذه الإدارة أن من قاد الهجوم على قوات المارينز ثمانينيات القرن الماضي هم قادة حزب الله اليوم، وكانت هذه الإدارة أعلنت في وقت سابق عن جائزة مالية لمن يُدلي بمعلومات تقود لاعتقال شخصين من حزب الله مدانين بعمليات إرهابية ضد المصالح الأميركية.
هذه الأحداث المتسارعة جميعها مترابطة، وتسير على إيقاع الإستراتيجية الجديدة لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي رأى أن سياسة سلفه أوباما الخارجية قد سببت الأذى لأميركا من خلال تخليها عن حلفاء أميركا الاستراتيجيين والتقليدين في المنطقة، والتي باتت إيران تتدخل في شؤون أكثر من بلد فيها.
إن المحاولة الأميركية الحالية لفِطام حكومة بغداد عن الحليب الإيراني وإعادته لحضنها العربي من بوابتين عربيتين كبيرتين كالسعودية ومصر، وتحسّن العلاقات مع الأردن، سيكون لها أثر ملحوظ بلا شك على الملف السوري، وإن بطريقة غير مباشرة، حيث أن قص أجنحة إيران في الخارج والتهديدات المباشرة لحزب الله سيربك الجانب الروسي الذي يعتمد بشكل شبه كلي على الأرض على قوة الميليشيات الإيرانية التي بدونها ستكون القوة العسكرية الروسية غير قادرة على حماية حليفها الأسد.
يبقى المؤشر للموقف الأميركي هو تصرفها على الأرض في الرقة، وما ستؤول إليه الأمور في تلك المدينة، علمًا أن قوات النظام والميليشيات الطائفية قد نفّذت انسحابًا من ست مخافر حدوية مع الأردن ومن محيط قاعدة التنف وعلى بعد خمسين كيلومترًا فيما يبدو وأن الأميركيين مازالوا مصرّين على قطع الطريق بين طهران ودمشق بريًا، وستحمل الأيام القادمة المزيد من الأخبار.