مقالات الرأي

“المُعارض” الصامت والنموذج السيئ

من المفهوم والمُبرر، إلى حد بعيد، أن يتجنب الناشطون أو بعض المحسوبين من النخب (المعارضة)، إعلانَ مواقف صريحة ضد السلطة الاستبدادية، بل أن يمتنعوا نهائيًا عن “التورط” بالقول أو الكتابة ضد السلطة، طالما أنهم تحت قبضة أجهزتها الفاشية وميليشياتها وشبيحتها داخل سورية.

لكن البعض الحذر والمُمتنع عن إشهار معارضته لجرائم السلطة وارتكاباتها الوحشية، فيه نفر حريص على الإيحاء بأنه معارضٌ ويخشى على نفسه من الجلاد؛ فيُلمح إلى ذلك بإشارات ورسائل لأصدقائه ولمتابعي منشوراته، ويتفهم الجميع هذا الإحجامَ عن إشهار الموقف الواضح من سلطة الاستبداد، ولا أحد يُطالب بالتورط وتحمل التبعات، بل يتضامنون حتى مع صمته، حرصًا على سلامته، وفيه أيضًا نفر يبقى صامتًا دون أي تلميح أو إشارة تشي بأنه معارض، وكلا النموذجين وضعُه مفهوم، وله ما يبرره من كل حريص على إبعاد مخالب الجلاد عنهم، حيث لا تتساهل القطعان الفاشية والاستخبارية مع أدنى مستوى من المعارضة بالكلمة وبالنشاط، على الرغم من وجود عدد من المثقفين، داخل سورية، وفي مناطق سيطرة السلطة القاتلة، يغامرون بأنفسهم في الجهر بمعارضتهم، مبدين استعدادهم لتحمل كل ما يمكن أن يلحق بهم من أخطار.

أمَّا النموذج السيئ، من بين “النخب” التي تعيش في سورية تحت سلطة القتل، وبحجة عدم تعريض نفسه للخطر، فهو من يذهب أفراده إلى ما يعتقدونه أو يدَعونه، من ضرورات “التمويه”، وتضليل أجهزة السلطة الفاشية، إلى التظاهر بالموالاة أمام الموالين، وبالمعارضة أمام المعارضين، وهذا السلوك، كما يقول المثل: هروب من الدلف واحتماء تحت المزراب. وهذا النوع من الناس لا مبررَ لسلوكه، ويمكن توصيفه بالانتهازية، من جراء المبالغة في الخوف، والوقوع في حال الانفصام، ويصحّ على هذا النموذج إطلاق المثل: “فيها إنَّ”، وأكثر من إنَّ”.

الفئة التي أقصدها في عنوان هذا المقال، أفرادها هم أولئك الذين يهمسون، متوعدين بممارسة النقد الواضح والصريح، لسلطة الاستبداد الفاشي، حين يتاح لهم ذلك، عندما يستطيعون الخروج بعيدًا عن قبضة سلطة القتل، ولا يفوتهم النظر بعين الحسد للناشطين الموجودين في الخارج، لأنهم قادرون على المجاهرة الكاملة، بالكتابة وبالنقاش وبالنشاط العملي، وتسليط الأضواء الساطعة على كل ما يرتكبه النظام بحق الشعب السوري، ويُلمح هؤلاء إلى أنهم “قبل” التأمين على حياتهم من كل تهديد تمارسه السلطة في مناطق سيطرتها، لا يستطيعون القول، حتى همسًا، بحقيقة مواقفهم المناهضة والمضادة للدكتاتورية المتوحشة. وأما “بعد”، حين يُتاح لهم الخروج والابتعاد عن مخالب الوحوش، فيطلقون وعودهم بفعل كل شيء متاح؛ إذا نجحوا في الابتعاد عن المكان الذي تُمارس فيه سلطة الأسد بطشها وقمعها لكل صوت معارض. ولهذا الرأي ما يبرره، ولا يمكن الحكم على أصحابه بالسوء، فالناس مختلفون في ظروفهم وحساباتهم، وتتباين مستويات استعداداتهم لتحمّل الخطر الذي يمكن أن يصيبهم، وهم في حالة “ما قبل” المكان الآمن من الخطر/ الأخطار.

لا بأس في ذلك، ولا يمكن لأي عاقل، وعارف بالوضع داخل سورية، أن يُطالبهم بما يمكن أن يُعرِّض حياتهم لأي خطر، بل أيضًا لا أحد يخضعهم للاختبار، عندما يخرجون من بين براثن الوحوش إلى أماكن آمنة، لكن طالما أعلنوا أنهم نذروا أنفسهم بعد، وليس قبل، الخروج إلى أماكن جديدة وبعيدة؛ تصبح صدقيتهم محل اختبار، هم من اختاره ووضعوا أنفسهم فيه، ولنترك “قبل” المكان الآمن، وننظر لما يحدث للكثير منهم “فيما بعد”.

تلقائيًا، تتجه الأنظار نحو هؤلاء الذين غادروا “حضن الوطن”، حيث أنياب التوحش والاستبداد، إلى بلادٍ تصل نسبة الأمان فيها إلى الدرجة القصوى. فيها نشاطات مناهضة سلميًا ومدنيًا للقمع والجرائم التي تجري في سورية، (معارض رسم، أفلام، ومسرحيات، حفلات موسيقى، ندوات سياسية، اعتصامات، تظاهرات، بيانات، عرائض، جمع تبرعات ومساعدات، كتابة على صفحات التواصل الاجتماعي، أو الصحافة بأنواعها.. إلخ)، فلا تجد أثرًا لعدد من هؤلاء الذين أرسلوا إشارات “قبل” الوصول إلى الأمكنة الآمنة، بأنهم بعد ذلك سيقومون، على الأقل، بإشهار موقفهم الواضح ضد سلطة المافيا المستبدة، الجاثمة على صدر الشعب السوري. ولتبرير انكفائهم، بعد أن أصبحوا بعيدين عن يد الجلاد، يجتهدون بطرح التبريرات والذرائع لمواقفهم الصامتة، ولغيابهم عن ساحات النشاط بأشكاله كافة، ويقومون بذلك دون أن يطالبهم أحد بتوضيح موقفهم المنزوي والصامت.

حين يُقدّمون أعذارهم/ تبريراتهم، تأتي “أقبح من ذنب”، كما يقول المثل. ويسوقونها رزمة متكاملة ومتداخلة، تتمحور بمجملها على أملاكهم وبيوتهم، أو عائلاتهم وأقاربهم، وخوفهم من انتقام السلطة منهم جراء المجاهرة بمواقفهم، حتى وهم خارج البلد. وثالثة الأثافي أنهم لا يخجلون من الإعلان عن رغبتهم في الذهاب بشكل رسمي إلى سورية، وهي تحت سلطة الاستبداد، بعد تثبيت إقامتهم في بلدان أخرى. ولا يريدون خسارة هذه الفرصة، بما يشي بقناعتهم أن “سلطة الأسد إلى الأبد”، فهذه النماذج تكذب مرتين، مرة وهي في سورية، لتبرر صمتها بادِعاء حقها في تجنب الأخطار، ومرة أخرى وهي بعيدة عن الخطر وتقيم في بلاد بعيدة، فتحسب خط الرجعة، وفوق ذلك تطالب الآخرين بتقدير موقفها/ مواقفها، كما كانت وهي داخل سورية قبل الخروج، وهذا “القبل” له ما يُسوّغه، و”أما بعد” بعد الخروج من تحت بطش الطغيان، ومتابعة الصمت والانزواء عن أي نشاط، والامتناع عن المجاهرة بالموقف المناهض للدكتاتورية، فهي حالة يصبح فيها “إنَّ”، بل أكثر من “إنَّ” واحدة.

مقالات ذات صلة

إغلاق