- أرى أن السجن يأتي بعد الجامعة مباشرة كأنسب مكان لمن يريد أن يُفكر
مالكوم إكس
السجن فضاء رحب في الحقيقة، هامش من الحريّة، إسفنجة تمتص الهموم، ومتنفس للتفكير البنّاء والنقد الذاتي، وقد مثّل السجن ابتداء من القرن العشرين بوتقة للتشعبّات السياسيّة والاختلافات الأيدولوجية، ليصبح السجن مع بروز الأنظمة الديكتاتورية ما بعد الكوليانية، على حدّ عبارة المفكر إدوارد سعيد، ملتقى للمثقفين والإنتلجنسيا التي أنجبتها أرحام التجارب اليسارية في الدول العربيّة، باعتبارها آليّة مقاومة ثقافية تنقد الأنظمة السلطويّة، تجاربٌ مثّلت بضوئها تراثًا يستمدّ منه الإنسان المعاصر تجربة للقطيعة مع تاريخ قاتم والتصالح مع الحاضر، من أجل مستقبل واضح، أو كما عبّر شاعر دمشق نزار قبّاني وهو ينقل لنا خيباته مع التاريخ في قصيدته قائلًا: (إن كان من ذبحوا التاريخ هم نسبي على العصور، فإني أرفض النسب).
كيف نؤبّن الحاضر، ونرثي المستقبل، ونحن لم نوثّق التاريخ
من هنا، نجد ضرورة توثيق التجارب المهمة في تاريخ الحركة الوطنية، ما بعد الاستقلال إلى يومنا هذا، من أجل قراءة تاريخ حيّ، حرّ وثوريّ، يكون اللبنة الأولى نحو غد تشرق بنوره شمس الديمقراطية والحرية والعلمانية، وتأفل معه أشباح الأصولية والديكتاتورية، لكن بالرجوع إلى التاريخ القريب نجد أنفسنا أمام تاريخ أعاد نفسه هذه المرّة في شكل مأساة ومهزلة في آن، فمع تجبّر الأنظمة الغاشمة وبسط أيديها على جميع مفاصل الدولة باختلاف تمثّلاتها (سواء علميًا مع المناهج التربوية والدراسية البالية، قضائيًا مع تشريعات قانونية جائرة، وثقافيًا مع خردة ثقافية، على حدّ عبارة أدورنو، تروّج لأنظمة ديكتاتورية)؛ نجد أنفسنا أمام ضروب شتى من الحيرة، فحين يصبح الوطن وكرًا للبغاة والسارقين، والسجن منفى للمثقفين والأكاديميين؛ نتوجّس من الغد القادم، وتاريخنا القاتم.
الثورات العربية، لحظة تأمّل حرّ نحو التاريخ:
لأن الثورات العربية مثّلت فرصة ولحظة لنراجع ونزعزع أطروحات، كانت حقائق ثابتة منذ الاستقلال؛ فقد آن الأوان لقراءة التاريخ من أفواه من عايشوه، ومن هذا المنطلق، كان كتاب المناضل الوطني الصادق بن مهني (سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرًا) فرصةً لنطوي صفحة النسيان، ونفتح ذاكرتنا على التاريخ.
عنوان الكتاب، اللقاء الأول نحو متنه:
بمصافحتنا للأثر؛ تثار ريبتنا تجاه العنوان، باعتبار أنه أول لقاء بين القارئ والكتاب، عنوان يتكون من جزأين، يندرج كل جزء منهما في تخوم مرجعيّتين متناقضتين في الجوهر والعرض، فالأوّل يصبّ نحو فعل لا أخلاقي، تنبذه كل التشريعات الدينية والدنيوية على حدّ سواء، وفي نصفهم، يكون حرف العطف أو! أمّا الجزء الثاني، فهو “أو زادني الحبس عمرًا” كأن السجن أصبح تجربة مثمرة، رغم مرارتها، السجن زاده عمرًا! السجن الذي كان شرًا لا بدّ منه، ففي النهاية (المساجين هم مثلك ومثله، وأنّ السجن في أصله حرمان وقتيّ من الحريّة) ص 11.
هذا الأثر الذي كان في السّياسة، هو إلى ذلك كتاب في الوجود والمؤانسة، وفي نحت الذّات وانعتاقها. تدور أحداثه حول حياة سجين سياسي أيّام قمعه واضطهاده بإمرة نظام قاهر متجبِّرٍ، أراد أن يقصف أحلامه وهي لم تكن بعد قد أينعت. وهو -أيضًا- سؤال أركيولوجي يحفر في ضمائرنا وجنوننا وآليّات تواجدنا وتعاملنا مع بعضنا البعض، روحًا وجسدًا، سلطة وأهلاً ورفاقًا.
لحظات شاعرية وأخرى سرديّة، عواطف، عواصف، ذكريات، خواطر شاردة واعترافات تتمازج وتتماسك لصياغة نصّ فريد من معدنٍ خاص؛ لغته تشهد على نشأة جيل أراد أن يكون جيل الحريّات والمساواة وحقوق الناس والإنسان، بطشت به السلط ورمت به في الزنازين، ولكنّ التاريخ العنيد أبى إلّا أن يفتح له أبواب الفكر الحرّ والعقل العارف المستنير.
فرغم الدّاء والأعداء، لم تكن -ولن تكون- الغلبة للسّلطان، مهما كانت معامل المُلك وطبائع الاستبداد؛ ذلك بعض من خلاصة هذا الكتاب، كما تمّ تقديم الكتاب.
شكليًا، يمتدّ على 130 صفحة، أمّا زمنيّا فهو يمتدّ من بعد الثورة في بدايته، ثمّ يعود بنا إلى أوائل الثمانينيات، أيّامًا قبل الإيقاع به في كمين، ثم تجربته في سجون مختلفة من البلاد التونسية، سجن القصرين، سجن 9 أفريل، فسجن برج الرومي (الذي أصبح متحفًا بعد الثورة التونسية) ينقل لنا الصادق بن مهنّي، وهو يسكب عصارة تجربته وجزءًا من روحه، في فعل مازوشيّ أيّامه هناك، حيث للأيّام رائحة الموت، وحيث نسجت العناكب خيوطها على أحلامهم، وعن قسوة وضنك العيش هناك، وحيث الوحشية نجدها هناك، (نمت فور أن أغلقوا عليك باب الزنزانة، ثمّ تحيّرت أيّ السطلين البلاستكيين المتماثلين شكلاً ولونًا وسعة، أيّهما لقضاء الحاجة، وبأيّ رياضة يمكنك أن تستغيث لتقدر على اعتلاء ذلك الذي تختاره مرحاضًا) ص 34.
السجون العربيّة، أو في بربرية الأنظمة العربية
قسوة الأيّام، بطش المساجين، تعتيم الإعلاميين، شيطنة النظام لهم، فراق الأحبّة، كان شبح الموت، يعانقهم كلّ ليلة ويجثم على صدورهم، حتى أصبح الروتين أسلوب عيش، والرتابة أفقًا يلوح لهم: (في برج الرومي، كان كلّ فعل -مهما صغر- يمثّل حدثًا قابلًا للنقاش ومدعاة للضحك، وأحيانًا لتعكير الخاطر، كنّا نتأثّر بأيّ شيء.. ونحلّل بتفصيل ودقة حتى صغائر الأمور). ص 102
سِتّ سنوات، عايشها من رفضوا الركوع والخنوع، مساجين الرأي، مساجين الحرية، ورغم أنّ السجن حيّز مكاني ضيّق، لكن، قد يسعك السجن أكثر مّما يسعك الوطن، سجن المرء هو المكان الذي تنتهي فيه محاولتك للهروب، هكذا قال نجيب محفوظ، لكنّك أحببت سجنك، فالسجن أصبح فضاءً للنقاش وتداعي الأفكار الثابتة حتى تصبح حرّة، لم تثنك قضبان السجن، كي تحلّق في فضاء أرحب وتحلم بواقع أفضل من هذا.
هذا الكتاب، لم يكْتب عن سجن تونس فقط، لقد كَتَبَ عن معتقلات سورية والعراق ومصر وليبيا والجزائر والمغرب، لقد أنهى هذا الكتاب ما لم ينههِ عبد الرحمن منيف (في الآن.. هنا، أو شرق المتوسّط مرّة أخرى)، عن حكومة اتكلت بأبناء الشعب، متمثّلين في السجّانين، لقمع أبناء الشعب، متمثّلين في مساجين سياسيين، لقد حدّثتنا (كيف يُربّي الجلّادون على الجِلْدِ والجَلَدِ، وكيف أنّهم مجرّد مأمورين وأدوات يحرّكها الساسة، في منظومة حكم وسلطة لا يهمّها سوى أن تدوم) ص 12. وعن السادية حين تخرج من تخومها، وعن القمع حين يخرج عن طوره، عن حكومات تقتل وتعذّب ليستمرّ مجونها وحكمها مستعينة بالجلّادين. حتى المخيال الشعبي كان ينهى عن ذلك وينبذهُ، أن تكون تابعًا للسلطة بمختلف أشكالها، أو لم يقل لك أبوك (كن ما شئت يا ولدي، لكن لا أريدك شرطيًّا ولا حاكمًا) ص 30.
الفنّانة فدوى سليمان في سورية، أحمد مطر في الأردن، ناجي العلي في فلسطين، جورج طرابيشي وحسين العودات في سورية، مظفر النواب في العراق، وغيرهم الكثير في عالمنا العربي، ممّن يحف التاريخ بذكرهم ولا تفي هذه السطور حقّهم، آمنوا بالقضيّة وتركوا الوصيّة؛ بأن من ترك الوطن للجلّادين قد خان.
نحو أفق رحب، يضمن إنسانية الإنسان
تنتهي الرواية، وتبقى العبرة زاخرة في النهاية، بتوثيقها وتأريخها وسردها، لكن في النهاية، فإنّ صلاح الإنسانية، والأوطان العربيّة، ليس رهين ثورة فكرية محضة، بالمعنى التقليدي للكلمة، وإنّما إبداع طريقة تعبّر عن وفاق بين الإنسان وذاته من جهة، والإنسان وغيره من جهة أخرى، ولا يستدعي هذا موقفًا سياسيًا، بل ثورة ثقافية تشمل المواطن والوطن، الفرد والمجتمع، من أجل مشروع جديد يعبّر عن لقاء بين الأنا والغير، من أجل مأسسة علاقة مغايرة لما هو موجود، من أشكال الهمجية والعصبية والديكتاتورية والقمع والكبت والتوجّس، من لأخر المختلف عن السائد، وتسمو في آن نحو الاحترام والتعدّدّ والاختلاف والحداثة، لا من أجل تغير العالم أو صياغة حلول جاهزة، فكما عبّر غاندي: “بالأمس كنت ذكيًا أردت تغيير العالم، اليوم أنا حكيم، أردت تغيير نفسي”، لكن من أجل تقويض الواقع الرّاهن وكنسه، وطرح أسئلة تخلّصنا من غفوتنا وبربريّتنا، وتغذّي فينا حب الإنسانيّة، وإن كان الحب نداء الشعراء، كما عبّر إدغار موران، أو كما صدّح الصادق بن مهني؛ (أحببت سجّاني، أحببت بعضهم، أحببت جلّهم، وإذ أحببتهم أحببت الناس جميعًا، أحببتهم أكثر). ص 63.
الصادق بن مهنّي، صاحب كتاب (سارق الطماطم أو زادني السجن عمرًا)، من مواليد جزيرة جربة من ولاية مدنين، وهو سجين رأي سابق، وحاصل على الأستاذية في العربية، يجمع بين الإسهام المكثّف في أنشطة المجتمع المدني والكتابة والترجمة، اشتغل على الحريات وحقوق الإنسان، ويعمل حاليًا في مكتب تونس للمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، وقد حصل على جائزة الصادق مازيغ للترجمة، سنة 2017.