يقول التاريخ إن مدينة برمنغهام الواقعة وسط غرب بريطانيا كانت عام 1919 مركزًا لأحداث داخلية، رسمت خارطة بريطانيا المقبلة صناعيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. ففي نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت بريطانيا، مثل غيرها من الدول الأوروبية التي شاركت بالحرب، قد خرجت منها منهكة، والكثير من قطاعاتها الاقتصادية قد دُمّر، وخسرت الكثير من شبابها (850,000 قتيل تقريبًا)، وعددًا آخر من المدنيين بسبب الأمراض ونقص المواد الغذائية والمجاعة بشكل عام؛ مما أثر على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المملكة، وخلق جوًا من الفوضى نتج عن الفراغ في مؤسسات المجتمع والدولة التي خلخلتها الحرب، فحاولت كل مجموعة بشرية متجانسة المصالح نسبيًا أن تستولي على مكانٍ لها، في المشهد الصناعي والسياسي والتجاري الذي بدأ يُرسم في المدينة الصناعية الأهم في بريطانيا، في ذلك الوقت.
نتيجة موقعها الجغرافي الذي حماها من آثار الحرب المباشرة، وكونها مركزًا أساسيًا في الصناعة التي كانت تستخدم عددًا كبيرًا من العمال؛ تجمّع فيها، إضافة إلى ذلك، الجنود الجائعون الذين خاضوا الحرب وتم تسريحهم، والسياسيون اليساريون الذين كانوا يحلمون بتثويرة الطبقة العاملة، والمجرمون من كل الأصناف، وخاصة المافيات الكبرى التي راكمت الكثير من الأموال من السرقة ورهانات الخيل والخوّات. كل ذلك جعل المدينة تعيش على حافة ثورة اجتماعية.
كانت المدينة محكومة من قِبل ثلاث مافيات كبرى هي المافيا الإيطالية والمافيا اليهودية والمافيا الغجرية، والأخيرة لعبت دورًا كبيرًا بعد سيطرتها على صناعة السلاح، واستخدام “تشرشل” لها للقضاء على الحركة العمالية اليسارية في المدينة، وعلى بقية المافيات، عند الضرورة.
إذا كانت الحرب والعدو الخارجي من عوامل وحدة البريطانيين؛ فإن السلام الذي أعقب الحرب والفوضى والحاجة، ورغبة المُهمّشين في ملء الفراغ والحصول على حصة من الدخل العام، قد خلق أنواعًا من الحروب الداخلية، بهدف الحصول على المال والنفوذ. في حرب المافيات للصراع على المال والنفوذ، لم تبق أداة من أدوات القتل إلا واستُخدِمت. كلّ خبرات الحرب العالمية الأولى وضُعت قيد التنفيذ من جديد: القضاء على الأطراف المنافسة، الجنس والرشوة وتفجيرات الأبنية والقطارات والمذابح الفردية والجماعية، وحفر الأنفاق، وخطف الأطفال وقتلهم عند الضرورة، كل ذلك وأكثر حصل في حرب المافيات، أحيانًا بمساعدة أطراف من السلطة المركزية لطرفٍ ما، كي يقضي على بقية الأطراف، قبل القضاء عليه نفسه، أو بمساعدة من طرف خارجي لتحقيق أهداف سياسية عبر الضغط على الحكومة في بعض الملفات.
وأنا أتابع المسلسل التاريخي والبوليسي (Peaky Blinders) الممتع فنيًا وموضوعًا، والذي وردت فيه الأفكار التي لخّصتها في المقدمة، كنت أسترجع في ذاكرتي ما حدث في الثورة السورية خلال سنواتها السبع، وكيف ظهر أمراء الحرب في الشوارع السورية، بعد القتل الذي مارسه الأسد بحق الناس، لدفعهم إلى اقتناء السلاح دفاعًا عن النفس، في البداية، والتمهيد لقبول المال الذي فرشه أصحاب النفط من دول الجوار، أمام “الجائعين” للمال والسلطة، تحت شعارات متنوعة، كي يتحولوا بدورهم إلى المساهمة في وأد الثورة وهجرة وهرب الملايين من ساحة الفعل، والذين كان لهم مصلحة في انتصار الثورة، كل تلك العناصر هيأت الأرضية والمناخ لانتصار المافيات؛ مرة تحت شعارات دينية كـ “النصرة” و”داعش” و”جيش الإسلام” و”هيئة تحرير الشام”، وكل المسميات المشابهة، ومرة تحت رايات المقاومة والممانعة، كجيش الأسد وعصابات “حزب الله”، وكل الميليشيات المتخفية تحت عباءة الشيعة، ومرة عصابات تحمل الراية القومية الكردية، أو الراية القومية التركمانية أو العربية، وأخيرًا ما تبقى من مافيات تحمل اسم “جيش حر”… إلخ.
لقد تحول الوطن السوري إلى مستودع للمافيات الصغيرة ومفرخة، لأمراء الحرب والكثير من القادة السياسيين الناطقين باسم مصالحهم الصغيرة، كل ذلك تمهيدًا لاستقبال المافيات العالمية الكبرى، التي طرحت وتطرح “إعادة الإعمار”، كالمافيات الروسية والإيرانية والتركية والأوروبية والأميركية، ومافيات دول النفط، هذه المافيات التي لا يهمها المواطن السوري ولا الوطن السوري إلا بمقدار ما سيدرّه عليهم من مصالح استراتيجية وأموال مباشرة، وبناء عليه سيتم تقاسم كل شيء، وتقسيم كل ذرة تراب، إذا كان هذا يخدم مصالحهم، ويبعد عنهم شبح الثورة الذي ما زال حيًا، بشكل من الأشكال في عقول السوريين وقلوبهم.
في النهاية، كلنا يعرف أن القرارات الآن ليست بأيدي السوريين، وإنما بأيدي زعماء تلك المافيات، ونأمل أن يكون في مصلحتها تسهيل عودة السوريين وبقاء الوطن السوري موحدًا.
بقي أملٌ صغير، ولكنه موجود، ألا وهو تبلور أحزاب سورية يكون انتماؤها الأول لسورية، لعلها تعمل على تحرير سورية مستقبلًا.