(1)
منذ أن تكوّنت الأمم، بمعنى التكوين التاريخي المشترك، حيث تختص الأمة بأرض محددة؛ تحولت الأرض إلى وطن، بينما كانت بالنسبة إلى التكوينات القبلية مجرد (ممر) مؤقت، أو موطن يرتبط بفترة زمنية محددة، وبالتالي فإن العلاقة، بين الجماعة والأرض، كانت تنتهي بمجرد أن تشد الجماعة الرحال عنها، وبالتالي يُمكن أن تتعاقب عليها قبائل أخرى للتعامل معها بالطريقة ذاتها، لكن هذه العلاقة، بين البشر والأرض، تغيرّت نوعيًا بعد أن تحولت الأرض مستقرًا للجماعة التي اكتسبت بهذا الاستقرار صفة شعب، ثم أمة، واكتسبت الأرض بهذا الاستقرار نسبها إلى الجماعة، فأصبحت أرضًا عربية، أو أرضًا فرنسية، أو أرضًا صينية، وهكذا… وهنا أصبحت الأرض جزءًا من وجود الجماعة التي أصبحت مجتمعًا، وغدا العدوان على أي شبر من أرض الوطن عدوانًا على المجتمع بأسره، وعلى الرغم من أن الأمم لم تكتمل تكوينًا في فترة زمنية واحدة، إلا أن هذا التكوين اكتمل الآن، وتم حل أغلب مشكلات التخوم، والتداخل، لكن بقيت المشكلات التي اصطنعها الاستعمار في مناطق عديدة من العالم، حيث إن هذه المناطق تُشّكل نقاط التوتر الرئيسية في العالم، مما يؤكد أن العبث بالأوطان والأمم ليس أكثر من اصطناع مشكلات للأمم والشعوب، يعوق تقدمها وتطورها، ولا حل لتلك المشكلات إلا بإزالة أسبابها، بل إن الاهتمام غير المتوازن بأجزاء الوطن -وإنْ كانت الدولة متطابقة مع حدود الوطن- يؤدي إلى مشكلات تعوق تطور الأمة، فكيف إذا تم تقسيم الوطن إلى أجزاء، وفتات، بين دول متعددة؟!
يقول الخبير الدستوري الفرنسي جورج بوردو: “عبر تحديد الإطار الإقليمي (الوطن)، يضع القادة الشعور الوطني في إطار الحقائق الملموسة، فهل يمكن الاعتقاد أن هذا الشعور يُمكن أن يكون حادًا، إذا كان السكان يدركون أن قطعة الارض التي يشغلونها مهملة من قبل السلطة أو محرومة لمصلحة مناطق أخرى. ويتساءل بوردو: “ماذا يفيد أن يكون (الإقليم) وطنيًا، إذا كانت القلوب بلا جنسية وطنية”، ويُجيب: “إنها إذن، كينونة السكان وتحولها إلى هذا الكائن الروحي الذي يجعل منها أمة”(1).
هكذا يربط بوردو بين تكوين الأمة، والتعامل المتوازن مع الوطن، فالتعامل مع الأرض ليس مجرد استثمار للثروات الكامنة فيها: “ليس لسياسة التنمية والاستثمار والتوجيه الفيزيائي سمة اقتصادية، وحسب، إنها ضرورية لعملية البناء الروحي للجماعة”(2)، كما يقول بوردو.
المشكلة أكثر تعقيدًا بالنسبة إلى تجهيز (الوطن) في أفريقيا، حيث قسّم الاستعمار أرض القارة السوداء، بما يخدم مصالحه، وليس بما يتطابق مع الواقع التاريخي للشعوب، والأرض، يقول بوردو: “بالنسبة إلى الدول الفتية في إفريقيا، بما أنها ورثت أقاليم من الدول الاستعمارية، فهي ليست في وارد الحصول على أراضيها، ولكن يقتضي عليها أن توحدّها بالتجهيز، وامتصاص الفوارق التي يثيرها بين مناطقها المختلفة تنوع الموارد ونمط استثمارها”(3).
(2)
إذن، عندما “تثبت الحدود الجغرافية للأمة مؤذنة بانتهاء الصراع القبلي؛ تكون تلك الحدود ذاتها حدودًا لما يليها من جماعات استقرت قبالة تلك الحدود، إن كان قد خطها اتفاق سلام، أو عاجزة عن تخطيها إن كانت قد امتدت إلى حواجز طبيعية من الجبال أو البحار، ومن هنا تكون الأرض الواحدة، لا مميزًا في المكان، فحسب، ولكن مميزًا خارجيًا أيضًا، نهاية حدود بين الأمم المتجاورة، ومميزًا في الطور الاجتماعي تتخطى به الأمم التكوين القبلي”(4).
تكون الترجمة السياسية والقانونية لذلك -كما يقول د. عصمت سيف الدولة- في أنه “لما كانت الأمة تكوينًا تاريخيًا، فإن اشتراك الشعب في الوطن هو مشاركة تاريخية، تحول من ناحية دون أن يتصرف الشعب في وطنه، أو في جزء منه، في أي مرحلة تاريخية مُعيّنة، لأن الوطن شركة تاريخية بين الأجيال المتعاقبة، وتحول من ناحية أخرى دون التنازل عن أي جزء منه للغير، أو تمكين الغير من الاستيلاء عليه (علاقة خارجية)، وتحول من ناحية ثالثة دون أي جزء من الشعب أن يستأثر بأي إقليم عن بقية الشعب (علاقة داخلية)”(5).
بهذا نكون قد انتهينا إلى أن الأساس الذي يتكوّن تاريخيًا، كوطن للأمة بحدوده الجغرافية، هو الأساس الذي يجب أن يتبعه خط حدود الدولة دون انتقاص أو تعدّ.
وكما أن الوطن مُحدّد جغرافيًا، ولا يُمكن العبث بحدوده، كذلك الشعب الذي يمكن أن يغادر حدود وطنه، لكنه متى تخطى تلك الحدود أصبح أجنبيًا، ونحن هنا لا نريد أن ندخل في النقاش الدائر حول العوامل التي تكوّن الأمة، لكن الفقه القانوني والسياسي والاجتماعي يلتقي على أنه عندما نكون في مواجهة أمة مكتملة التكوين؛ فإن على الدولة أن تتبع بحدودها حدود التكوين التاريخي لتلك الأمة دون انتقاصٍ، أو تعدٍّ.
قالوا: الدولة مجتمع سياسي، فقال بوردو ردًا على ذلك: “ليس كل مجتمع سياسي دولة. وإنه لكرم لفظي أن نُطلق صفة الدولة على التنظيم السياسي الذي عرفه البابليون، والفرس، وكذلك عندما نطلق الصفة نفسها على السلطة التي يمارسها أحد شيوخ القبائل في ماليزيا، أو أفريقيا الاستوائية، إننا دون شك نلحظ جيدًا وجود الإكراه في كل هذه الجماعات؛ إذ إن فأس الجلاد هي من المعدن ذاته، سواء كان يُنفّذ حكمًا صادرًا باسم الدولة، أو كان يطيع أوامر مرزبان يحصر في شخصه ملكية السلطة، وصلاحياتها”(6).
لقد أراد بوردو أن يُفرّق بين الدولة، والقبيلة، وأراد أن يقول إن إطلاق اسم (الدولة) على (القبيلة) لا يُغيّر من أمر المُسمى شيئًا. فالدولة الحديثة هي التي تكونهّا الأمة، فإذا كانت الروح هي التي تُعطي فكرة الأمة مضامينها الموضوعية؛ فإن شراكة الأحلام هي التي تصنع قوتهّا الشعورية، كما قال مالرو، وهي (الأمة) تعني استمرار البقاء، لأنها خط البقاء الذي يُصحّح به الإنسان قدر غيابه الشخصي، كما قال بوردو، ولكن كيف يُعبّر خط البقاء هذا عن نفسه. يقول بوردو: “يشترط حلم المستقبل المشترك -حيث تندرج المشاريع الجماعية- إطارًا سياسيًا على مقياسه. ومما لا شك فيه أن في التاريخ أممًا كثيرة لم تتوصل إلى تحقيقه، ولكن جهودها للحصول عليه تُثبت كفاية أنها لا تستطيع أن تحقق حجمها الكامل إلا به”(7). ويُضيف: “هذا التنظيم السياسي لا يضمن فقط تحررّها من أي سيطرة أجنبية، وإنما يؤدي إلى منحها سلطة بحجم مشروعها”.
(3)
عندما يتأكد الحس الوطني؛ تظهر الحاجة إلى التعبير بشكل موضوعي عن هذه الشراكة في الرؤية، والتطلعات، وردّات الفعل التي تصنع الأمة، ولخلق التضامن من أجل جهد دائم بين الأعضاء الحاليين للمجموعة، والأجيال السابقة واللاحقة. فمن المؤكد “أن السلطة هي التي ترمز إلى هذا التلاحم وهي التي تجعله مؤثرًا”، هكذا يقول بوردو، ويُضيف: “ثمة بونًا شاسعًا ينتصب بين الإرادة الفردية مهما تكن الأمة، والفكرة الوطنية التي عليه خدمتها. إن الأمة تستدعي الدولة لإن نمط السلطة التي هي مركزها هو وحده بقياس المعطيات الدائمة الذي يشكل الكائن الوطني”(8). فأي مجتمع غير قابل للحياة دون حد أدنى من “التفاهم بين أعضائه، ومن الاتفاق الذي يترجمه الانتماء إلى القيم الأساسية التي تؤمن البنى الاجتماعية وضعها موضع التنفيذ”(9).
عندما بدأ الرأي العام يُعبّر عن نفسه؛ استمر سبينوزا، وهوبس، ولوك، وروسو، باعتبار الطريقة التي يُعبّر الشعب بواسطتها عن إجماعه، وحدها ذات قيمة، لماذا؟ لأنه بالنسبة إليهم جوقة تُغني بتناغم تام، كما يقول بوردو: “فموقفًا عقَديًا كهذا تًكذبّه بوضوح الملاحظة العادية، ويصبح غير مفهوم، إذا نسينا أنه من صنع الفلاسفة أكثر منه من صنع علماء الاجتماع. إنهم يجدونه في الإدراك المشترك لجميع الناس، وما من شك أن هذا الإدراك يُفسّر عقليًا كيف تُنتج السلطة من إرادة المجموعة، ولكن ذلك ليس سوى افتراض فكري أكثر منه واقعًا قائمًا على الملاحظة”(10).
هكذا أجهد الفقهاء أنفسهم لتفسير تلك الظاهرة الاجتماعية البالغة الوضوح، وهي طموح الإنسان لبناء مجتمع بحجم الحلم، لكن ما إن يتحقق ما كان حلمًا حتى يستولد الواقع الجديد حلمًا جديدًا، وهذا الفقيه بوردو يقول: “الجماعة التي هو (الإنسان) عضو فيها بمجملها، وتاريخها، وأساطيرها، والخصائص المستمرة عبر الأجيال، والتي طبعت خلقه، وكذلك، ولم لا؟ كونه كائنًا عاقلًا، قد يحصل أن يتحرّر من أهوائه. كل هذه العوامل تساهم في دفعه إلى إدراك الرغبة لا بل الضرورة لقيام مجتمع، إذا لم يكن مطابقًا لأحلامه، فإنه على الأقل مقبول من جميع الذين اعتاد العيش معهم في الزمان والمكان. ففي صورة هذا المجتمع تجد سلطة الدولة جذورها الأكثر متانة والأقل إثارة للجدل”(11). ثم يخلص بوردو ليبني على ذلك كله قاعدة قانونية شديدة البساطة، لكنها بالغة الدلالة “إن غائية المجتمع هي التي تحدد غائية الدولة”(12)ـ فالدولة إذن ليست فوق المجتمع، إنها أداته، وفي اللحظة التي تنتقص فيها الدولة من المجتمع، أو يغتصب السلطة فيها من يحولهّا إلى أداة تستخدم المجتمع لمصلحة مستبد، أو عصابة، أو طبقة، أو فئة على الصعيد الداخلي، أو تكون ألعوبة بيد قوة خارجية، فإن هذا يعني أننا أصبحنا بمواجهة عدوان على المجتمع غير مشروع، ولو كان اسمه (الدولة).
(4)
لقد أطلق منظرو الثورة الفرنسية فكرة سيادة الأمة، وكانت السيادة القومية تستبعد اغتصاب مستبد، أو عصابة، أو طبقة، أو فئة على الصعيد الداخلي، أو تكون ألعوبة بيد قوة خارجية، لأن هذا يعني أننا أصبحنا أمام مواجهة عدوان على المجتمع غير مشروع، ولو كان المعتدي يمارس عدوانه تحت اسم (الدولة)، وتلك هي “أهم المبادئ التي أعلنتها الثورة، كما يقول الاستاذ عبد الهادي عباس: “فالأمة موئل السيادة، ولا تكون السيادة في غيرها”(13).
على الرغم من أن جان جاك روسو في (العقد الاجتماعي) قد وضع قاعدة بأنه “لا يمكن للسلطة الاجتماعية أن يكون مصدرها المشروع في نظام الأسرة، ولا في أفضلية بعض الطبقات على الأخرى، ولا في خضوع الأمم بقوة الفتح والرق”(14) فإن الرأسمالية الأوروبية التي سطرت في الدساتير (سيادة الأمة) في الدول الأوروبية، إلا أنها انتهكت (العقد الاجتماعي) بالسيطرة الطبقية على المجتمعات الأوروبية، وباستعمار، واسترقاق الأمم الأخرى، وقد نص الدستور الفرنسي (1791) على “أن السيادة ملك للأمة”، كما أن وثيقة حقوق الإنسان التي أقرتها الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1789 قد أقرت (أن الأمة مصدر كل سيادة).
ومع ذلك، فإن مبدأ السيادة القومية يُترجم أحيانًا بنظرية سيادة الأمة، وأحيانًا أخرى بنظرية سيادة الشعب. فالنظرية التي أقامتها الثورة الفرنسية عن السيادة هي أن السيادة للأمة منظور إليها بحسبانها وحدة مستقلة عن الأفراد المكونين لها، أي أن “السيادة لم تكن ملكًا لإفراد الأمة مستقلين، فلم يكن كل منهم مالكًا لجزء من السيادة، وإلا ما كان للسيادة صاحب واحد هو الأمة، وهذا أدى إلى الاعتراف للأمة بالشخصية القانونية، وبالتالي إلى قيام شخصين معنويين على (إقليم واحد) هما الدولة، والأمة يتنازعان السلطة معًا، ودفعًا لهذا النقد، قال البعض إن الدولة والأمة شخص واحد. وهذا يؤدي إلى أن الدولة صاحبة السيادة، وتبقى المشكلة…”(15).
(5)
أما نظرية السيادة للشعب، فتتفق مع نظرية السيادة للأمة في أن السيادة للجماعة، ولكن لا على أن الجماعة وحدة مستقلة عن الأفراد المكونين لها، وإنما بوصفها “تتكون من عدة من الأفراد، وبالتالي تكون السيادة لكل فرد فيها، فالسيادة وفقًا لهذه النظرية تنقسم بين جميع أفراد الجماعة، أي أن كل فرد سيكون له جزء من السيادة، وبالتالي سيكون الانتخاب حقًا لا وظيفة”(16).
إن الأخذ بنظرية سيادة الأمة من شأنه أن يضع في الاعتبار مصالح الأجيال القادمة، ولذلك “فليس من المُحتمّ النزول عند إرادة أغلبية الناخبين دائمًا، لأن مثل هذه الإرادة قد لا تمثل إلا نزعات، ونزوات عارضة، فاعتبار الأجيال القادمة يٌبرّر الحالات التي يؤجل فيها الدستور الأخذ بإرادة الأغلبية ريثما يثبت أن هذه الإرادة تمثل الإرادة الحقيقية، والمستقرة للأمة، وأنها لم تكن نتيجة نزوات عارضة، أو رغبات وقتية، وتطبيق هذه الفكرة يظهر في حالة وجود مجلسين نيابيين، يختلفان فيما بينهما من حيث طريقة التكوين. أما في نظام السيادة للشعب فلا مندوحة من الأخذ بما تراه الأغلبية دون اعتبار لما إذا كانت تمثل إرادة أكيدة دائمة، أم، لا”(17). وبغض النظر عن حقيقة تمثيل المجالس لسيادة الأمة، أو لسيادة الشعب، فإن المهم هو الإقرار بهذه السيادة أولًا، ثم محاولة تلمسّ الوسائل للوصول إلى إرادة هذه السيادة دون تزييف.
لقد جاء في الدستور الفرنسي (1791) أن “السيادة وحدة واحدة غير قابلة للانقسام، ولا للتنازل عنها، ولا للتمّلك بالتقادم، وهي ملك للأمة، والأمة هي مصدر جميع السلطات”.
أما في مشروع الدستور الفرنسي الصادر في 27 تشرين الأول 1946 فينص على أن “السيادة للشعب”. وبعد مناقشات حادة عُدّل الدستور بطريقة ترمي إلى التوفيق فجاء فيه: “سيادة الأمة ملك للشعب الفرنسي”(18).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش ومراجع:
(1) جورد بوردو -الدولة- صفحة (31).
(2) و(3) المصدر السابق صفحة (30).
(4) د. عصمت سيف الدولة -التقدم على الطريق المسدود- مصدر سابق صفحة (66).
(6) جورج بوردو -الدولة- صفحة (17).
(7) و(8) المصدر السابق صفحة (32).
(9) و(10) و(11) المصدر السابق صفحة (144) وما بعد.
(12) المصدر السابق صفحة (189).
(13) عبد الهادي عباس -السيادة- مصدر سابق صفحة (17).
(14) المصدر السابق صفحة (17).
(15) د. ثروت بدوي -النظم السياسية- مصدر سابق صفحة (41).
(16) و(17) و(18) المصدر السابق صفحة (41) وما بعد.
تعليق واحد