هموم ثقافية

عائلة ممسوسة

 

حين تدخل بيتك، فتُفاجَأ بصورك الشخصيّة مُعلَّقة في كافّة غرفه وزواياه، هل تشكر زوجتك وتُثمّن مبادرتها، أم تُراك تهرع إلى الصور فتنتزعها، قبل أن يراها أحدٌ؛ فيشكّ بأن مسًّا أصابك وأفراد أسرتك؟

بالطبع، ما من صاحب ذرّة عقل يمكن أن يقبل بهذا، مهما كان مُحبًّا لزوجته ومحبَّة له، وما من مدير مؤسسة أو مدرسة، أو رئيس هيئةٍ جمعية خيريّة، أو نادٍ رياضي أو اجتماعي أو ثقافي، أو مختار حارةٍ، أو صاحب أيّ قرابة أو صفة أو منصب.. له أن يرتضي بذلك، إلا حافظ الأسد وابنه، اللذين على شاكلة أباطرة الاستبداد في كوريا الشمالية.

ما من أحدٍ -سوى حافظ الأسد وابنه- يمكن أن يحدث ذلك معه، سواء في بيته أو مؤسّسته أو في أيّ تجمّع يتولى الإشراف عليه؛ إلا عدَّ الفعلة استهزاء به، وإهانة له، وحطًّا من قدره، و”شرشحة” لشخصه؛ أو كُرهًا وغلًّا وحقدًا في صدر الفاعل.

غير أن الأب وابنه، دون الناس الطبيعيين، رضيا وارتضيا بنشر مختلف الصور الشخصية لهما، فكان عهد طغيان الأول منهما ثلاثين عامًا، وعهد طغيان الابن سبعة عشر عامًا -حتى الآن- مُعَنْوَنَيْن بما استطاعت المطابع طباعته من صورهما الشخصيّة -بالنظارة السوداء الشمسيّة على الغالب أو من دونها نادرًا- على مختلف المواد الورقيّة والقماشيّة والزجاجيّة والحديديّة والخشبيّة والبلاستيكيّة والإسمنتيّة وغيرها.

وقد بلغ بهما الهوس بصورهما أن يرضيا برسمٍ بدائي، يقوم به أيّ دهَّان فاشل، على قطعة قماش مهملة، ويُعلّقها على باب دكَّانه؛ أو بصورة فوتوغرافيّة لأحدهما، يتمُّ تكرار طباعتها -في اللقطة ذاتها- على امتداد قماش أبيض بطول خمسين ستّين مترًا أو يزيد، وتعليقها على طول الشارع، أو حول مبنى مؤسسة استهلاكية حكوميّة أو شُعبة تجنيد؛ أو على لافتة خُطّت عليها حكمة بالغة العمق لابن حافظ، وعُلّقتْ على مدخل سوق الحميديَّة، تقول حرفيًّا: “أنا أحبّ سورية”. واللافتة -إيّاها- انفكّ أحد طرفيها عن العمود، فراحت تتلوّى في الهواء الطلق، لاطمةً وجوهَ المارّة وملوّثة السيارات العابرة بالغبار والزيوت والسّخام الذي تجمعه من أرض الشارع، في أثناء تطوّحها.

ذات يومٍ، ولضيقي بالانتظار، طفقتُ أحصي عددَ الصور الموجودة في غرفة إحدى مؤسسات الدولة، فكان مجموعها سبعًا وعشرين صورة للأسد الأب، بين المعلَّقة على الجدران الأربعة وباب الغرفة، والمدسوسة تحت ألواح زجاج طاولات المكاتب، والمعلّقة بدبابيس على صدور الموظَّفين.

والأمثلة والعيّنات والحكايات لا تحصى مما يعرفه كلّ سوريّ، في ما يتعلّق بوباء الصور الشخصيّة للأب وابنه (وكانت تُضاف صورة باسل بعد موته)، الوباء الذي عمَّ وتفشّى في البلد، منذ سبعة وأربعين عامًا إلى اليوم؛ ناهيك عن التماثيل العديدة التي شكَّلت فزَّاعات حقيقيّة للمارّة، ليس بسبب استيائهم منها وموقفهم السياسي المعارض لأصحابها فحسب، وإنما أيضًا للتشوُّه التشريحي الذي كانت عليه، والمُلوّث المُفسد للبصر.

هذا كلّه، والأسدان، الأب وابنه، ليسا غافلَين، أو ساهيين، أو جاهلَين بوباء الصور والتماثيل الموزَّعة كالفطر السّام -فرجال المخابرات ينقلون إليهما دبيب النملة في البلد- بل هما راضيان، موافقان، سعيدان السعادة كلّها، وهنا الطامة الكبرى!

طامةُ حاكمٍ ليس نرجسيًّا، أو مصابًا بجنون العظمة، إذ لو كان كذلك لما ارتضى، ولما سمح بأن تُشوَّه ملامحه من أيّ مدَّع منافق، أو أن تستخدم صوره على جدرانٍ حاجزةٍ تُخفي أعمال البناء المخالفة. إنه، وبلا أدنى شكّ لديّ، حال حاكم -في سريرته- لا يُصدق البتَّة أنه صار حاكمًا. لا الأب كان يُصدّق أن ضابطًا يعرف نفسه بأنّه أقلّ من عاديّ، أتاحت له مهازلُ الحياة أن يتسوَّد ويأمر ويُرهّب إلى الحدّ الذي كان عليه، ولا الابن يُصدّق أن مَنْ لم ينتسب إلى حزب، ولا شارك في تظاهرة، ولا كتب مقالًا سياسيًا في صحيفة، ولا ساجَل في ندوة أو ملتقى (إذ قضى جلّ حياته “طبيب عيون يفهم بالعين”)، يمكن لعاديات الزمان ومهازلها أن تورّثه هذا المنصب، فيشرع بممارسة الاستبداد، بأشدّ ما يمكن أن يُمارسه كائنٌ غير مُصدّق -بحال من الأحوال- أن الظروف والمعطيات يمكن أن تمنح مثلَه منصبَ رئاسة بلد، وحكمَ الملايين بالحديد والدم.

مقالات ذات صلة

إغلاق