إريك فروم (1900– 198) عالم نفس وفيلسوف إنساني، ولد في مدينة فرانكفورت بألمانيا، وهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1934. من أعماله :الهروب من الحرية، والتحليل النفسي والدين، واللغة المنسية: مدخل إلى فهم الأحلام والقصص الخيالية والأساطير، والمجتمع العاقل، والإنسان من أجل ذاته، والإنسان بين المظهر والجوهر، وتشريح نزوع الإنسان إلى التدمير، وغيرها، ومنها كتابه الذي بين أيدينا: “فن الحب، بحث في طبيعة الحب وأشكاله” (ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار العودة، بيروت، 2000). وقد ترجمت معظم كتبه إلى العربية.
أراد إريك فروم من هذا الكتاب أن يقنع القارئة والقارئ بأن “جميع محاولات الحب مقضي عليها بالفشل، من دون محاولة أكثر فاعلية لتطوير الشخصية الكلية. فذلك الإشباع للحب الفردي لا يمكن الحصول عليه دون مقدرة على محبة الجار، ومن دون التواضع الحق والشجاعة والإيمان والنظام. وعندما تكون هذه الصفات في حضارة ما نادرة، فإن تحقق القدرة على الحب تظل نادرة، حسب ما جاء في مقدمة الكتاب.
اللافت في رؤية فروم اعتبار الحب مَلَكة، مثل غيرها من الملكات التي امتاز بها الإنسان عن سائر الكائنات الحية، كالعقل والذوق والقدرة على التحسن الذاتي.. وبالتالي فإن هذه المَلكة، ملكة الحب، تحتاج إلى تنمية ورعاية وحماية، وتنميتها ورعايتها وحمايتها غير ممكنة إلا في بيئة اجتماعية مناسبة، وشروط إنسانية مناسبة. فالمجتمع الذي لا ينمِّي قدرة أفراده على محبة الجار والتواضع الحق والشجاعة والإيمان والنظام، يحرم أفراده من تنمية ملكاتهم وتطوير شخصياتهم الكلية، ومحبة ذواتهم بمحبة الآخرين والأخريات، والثقة بأنفسهم والإيمان بقدراتهم على تحقيق ذواتهم وبلوغ غاياتهم. فإن ملكات الإنسان متعاضدة ومتآزرة ومتكاملة، إذا لم تنمُ كلها، وفق إيقاع متناغم يختل توازن الشخصية، وتتدنى قدرتها على الإنتاج والإبداع والابتكار والتمتع بجماليات الحياة، والتمتع بجمال الحب، على وجه الخصوص.
الحب -عند فروم- لا يعني أن يكون الشخص محبوبًا أو محبوبة، مرغوبًا فيه أو مرغوبًا فيها، أو موضوعًا للتملك والاقتناء، (هناك وسائل وأساليب كثيرة لتحقيق هذا النوع من الحب الزائف، كالمال والسلطة والجاه وغيرها مما يجعل الإنسان، المرأة والرجل، سلعة في سوق الحب، أو في سوق الرغبة، التي تختزل فيها الحرية في حرية التبادل، والرغبة في البيع والقدرة على الشراء)، بل هو القدرة على الحب والارتقاء به إلى مستوى الفن، بصفته تجديدًا للمعرفة والثقافة، وإبداعًا وابتكارًا للحياة الإنسانية. إن اعتبار الحب فنًا أو ملكة ناتج من نقد فروم لنمط الحياة المعاصرة؛ إذ يقول: إن حضارتنا كلها قائمة على شهوة الشراء، قائمة على فكرة المقايضة المفضلة المحبوبة. وتقوم سعادة الإنسان الحديث، على شهوة التطلع إلى “الفترينات”، وعلى شراء كل ما يقدر على شرائه، سواء كان نقدًا أم بالتقسيط. وهو أو هي يتطلع إلى الناس بالطريقة عينها. فبالنسبة إلى الرجل، تعد الفتاة الجذابة، وبالنسبة إلى المرأة يعد الرجل الجذاب، الجائزتين اللتين يسعيان وراءها. ويقصد بكلمة “جذاب” مجموعة رائعة من الصفات المحبوبة التي يجري البحث عنها في سوق الشخصية”.
فروم لا ينفي الشعور بمتعة التواصل ولذة الحب الجنسي، ورعشة الحياة وسكرة الموت، لكن الشعور أعمى، لأنه وليد حاجة طبيعية أو غريزية، يحتاج إلى الاستنارة بالمعرفة، ليصير إنسانيًا. لذلك رأى أن الحب فن، هو “فن الحب” قوامه المعرفة والممارسة، والسيطرة على المعرفة والسيطرة على الممارسة، في وقت واحد، وتهذيب الشعور أو أنسنته، ليندغم الحب الجنسي بحب الحياة وحب الجمال وحب الإنسان والإنسانية وتعشق الحرية.
الحب الجنسي، لا ينفصل عن أشكال الحب الأخرى، فلا يترقَّى إلى مستوى حب الحياة وحب الجمال وتعشق الحرية وتقدير الروابط الاجتماعية، باعتبارها روابط إنسانية، إلا في مجتمع معافى، أو “مجتمع جيد التنظيم”، بل يظل دون مستوى الحب الإنساني والحياة المدنية، وقد ينحط إلى مستوى غريزي أو حيواني. المجتمعات التي تؤثم الحب الجنسي وتعيِّبه، قبل الزواج وفي أثنائه وبعده، هي نفسها التي تحرم الفنون وتعيِّبها، وتزدري الآداب، وتمنع الفكر الحر، وتتطيَّر من التجديد والابتكار، وتعيش في كهوف الماضي، وتعبد النصوص وتقدس العادات والأعراف والتقاليد البالية. والأخطر من هذا كله أنها تنتج التعصب ضد المختلف في لون بشرته أو لغته وثقافته ودينه وانتمائه الفكري أو السياسي، والتعصب ضد النساء خاصة، وتنتج بالتالي العنف والإرهاب، وليست الممارسات الداعشية سوى بنت الحرمان من الحب، ونتيجة ضمور ملكة الحب، وانعدام ملكة الذوق وانحطاط الأخلاق. حسب جاد الكريم الجباعي.
يختلف مفهوم الحب، في منظور الفلاسفة والمفكرين، عن المفهوم الشائع بيننا كأشخاص عاديين ومحبين ومحبوبين في الوقت ذاته؛ إذ يرى سقراط أن الحب هو توق للخير والجمال، أي إن الحب ليس حبًا للشخص بذاته، إنما لما يحمله من الخير والجمال؛ وهذا المفهوم هو مفهوم لاهوتي خالٍ من الجنس، أو ما يسمى (الحب الأفلاطوني) نسبة إلى ما نقله أفلاطون عن معلمه سقراط، وهو ما أسماه العرب الحب العذري الذي حاول صادق جلال العظم أن يحرره من السلطتين: الدينية والاجتماعية. أما الحب في منظور إريك فروم فهو فنٌّ يجب على الإنسان إتقانه، كما يتقن أي عمل يقوم به في حياته.
الإتقان في الفن يحتاج إلى عمل، والعمل يحتاج إلى معرفة وقدرة وإرادة قوية، وهذا ما يعنيه فروم في كتابه (فن الحب): إن الحب لا يأتي على طبق من ذهب، علينا أن نبذل جهدًا ليكون فينا، لا أن نقع فيه، الحب علاج للروح والجسد، كالموسيقا والغناء والغذاء. هذه النظرة التي تقترب من نظرة العظم إلى مفهوم الحب، وتقترب أيضًا من نظرة أرسطو. في الأولى ممارسة الحب تقتضي ممارسة الجنس، فالروح لا تنفصل عن الجسد، وفي الثانية على المحب أن يدرك الجمال في الحبيب، وأن يحب العالم في من يحب.
يؤكد فروم أن انفصال الإنسان عن الطبيعة، وانفصال الأبناء عن الأمهات، هو استقلال، وليس انفصالًا بالمعنى الفيزيائي للكلمة، بل هو اتصال بين ذوات حرة ومستقلة، ومن ثم اتصال بالعالم ككل، انفصال الإنسان عن الطبيعة يعني معاودة الاتصال بها عن طريق العمل الخلاق، وانفصال الأبناء علن الأمهات والآباء يعني معاودة الاتصال بهم عن طريق المحبة والاحترام، واستقلال الفرد (الرجل والمرأة) يعني معاودة اتصاله بأفراد مجتمعه، إنسانيًا واجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا. إذًا الحب لا يكون من دون استقلال الفرد وحريته ونمو شخصيته الإنسانية الكلية، التي تعطي بسخاء لمن تحب؛ فتفتح أبواب الفرح والسعادة، من دون شروط التملك وقيوده.
الحب هو الجواب على مشكلة الوجود الإنساني.