قضايا المجتمع

النصّ المقدس وبناء الذاكرة الجمعية

 

يقع الحديث المتواتر في قمة سلّم الأحاديث النبوية، من حيث درجة ثبوته، فهو حديث قطعيّ الثبوت؛ لأنه بتعريفه: “حديث تنقله جموع عن جموع يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب، ويكون مستنده الحسّ”.

وعلى الرغم من خلاف عدّه البعض اضطرابًا بين علماء الحديث (انظر: الجابري، بنية العقل العربي)، في تحديد العدد الكافي في كلّ طبقة من طبقات السند؛ ليكون الجمع محققًا لشرط التواتر، فإن شرطًا أساسيًا في نصّ التعريف السابق يجدر الانتباه إليه، وهو شرط يجعل التواتر تابعًا لتحصيل اليقين، لا العكس، وهو ما قد يتحقق بخبر الواحد المحتفّ بالقرائن. (انظر الغزالي، المستصفى).

فلا يكون الحديث متواترًا؛ ما لم يتحقق شرط من شروطه الأساسية، وهو أن يكون مستنده الحسّ، وإحدى الدلالات البالغة الأهمية لهذا الشرط، هي تحقيقه سياقًا يمكّن من تحديد ذاكرة جمعية؛ لأن هذا السياق سيكون سياق انفتاح ذاكرات فردية وتنافذها؛ من أجل تثبيت مادة لغوية عن طريق دمج التجربة الحسية مع الوصف اللفظيّ.

إن السياق الحسيّ المشترك يمثل عامل ضبط لممارسة إطلاق النعوت على التجربة، بتقليصه الفارق بين المدرَك والمسمّى. وإن ادعاء وجود ذاكرة جمعية كثيرًا ما يستند إلى خلط بين التصور الواقعيّ والتصور الدلاليّ، الأول هو ما يمكن أن يشكل موضوعًا لذاكرة مشتركة، والآخر يصعب أن يفعل ذلك؛ لأنه يعبر عن كيفية فهم الواقع وتفسيره.

فعلى الرغم من أن أفرادًا يمثلون أغلبية يمكن أن يمتلكوا تصورًا مشتركًا عن أحداث واقعية، مثل حدث الاحتلال الفرنسي الجزائر مثلًا، ولكنهم يمتلكون تصورات دلالية مختلفة عن هذا الحدث.

ولا ريب أن اختلاف التصورات الدلالية لازم بصورة حتمية عن التفسيرات المتنوعة التي يصوغها الأفراد للحدث، بحسب اختلاف شخصياتهم، واختلاف منظوماتهم المعرفية التي تدخل تصوراتهم للحدث في علاقات متنوعة معها، وهي تفسيرات يقرب من المستحيل أن تكون متطابقة بين فرد وآخر.

لا نجانب الصواب، ولا نغالي إذا قلنا: إن المفردة القرآنية التي عبّرت عن القرآن الكريم في سياق تأكيد حفظه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} الحجر، آية 9. لفظة معجزة؛ لأنها وصفت القرآن بهذه المفردة في هذا السياق الذي يتحدث عن التعهد بالحفظ، وهي مفردة يشتقّ منها مفردات الذكرى والذاكرة، كما أن التلفظ بالشيء يُعبر عنه بعبارة “ذكر هذا الشيء”، وهو ما يدمج الجزم بحفظه باستخدام المصدر “ذكر”، مع إشارة هذا المصدر إلى معنى التلفظ بالشيء، وإلى الذاكرة.

وهو تعبير بلاغيّ بالغ الذروة في مطابقة الحال؛ لأنه يتحدث عن دمج بين ذاكرة ولفظ، في سياق حفظ هذا الذكر، وهو حفظ لا يمكن أن يتحقّق إلا بشرط الاشتراك الأوليّ في التجربة الحسية. ولعل اشتراط الحسّ بما يحققه من قدرة على جعل التواتر خبرًا قطعيًا، وما يمكّن منه من صوغ ذاكرة مشتركة يجعل موضوع هذا التواتر، وهو القرآن الكريم والسنة المتواترة صالحًا لأن يكون محتوى لذاكرة جمعية، تغذي خطابًا ذا نزعة كلية لا يعاني ما تعانيه أمثاله من عيوب.

فالخطاب ذو النزعة الكلية الذي يقوم على ذاكرة جمعية يفترض وجودها بناءً على الخلط المذكور بين الواقعيّ والدلاليّ، وعلى الخلط بين الذاكرة المعبّر عنها عن طريق السرد، وبين الذاكرة مثل ما هي محفوظة لا يحقق درجة السداد العلميّ، ما لم يكن تشكله السرديّ -بحسب تعبير ريكور- مطابقًا للواقع الذي يعبر عنه.

وهي مطابقة تكاد درجة احتمالها تكون صفرًا؛ لأن خطيئة التعميم التي تقع فيها الخطابات ذات النزعة الكلية بالانتقال من تصورات مشتركة بين أفراد إلى تصور جمعيّ للجماعة يعاني الفجوة التي يستحيل جسرها بين الفرديّ والجماعيّ، واللبس الحاصل بين التصور الواقعيّ والتصور الدلاليّ.

وقد مثّلت هذه الخطابات ذات النزعة الكلية فكرة موت (انظر: جويل كاندو، الذاكرة والهوية)؛ لأنها كانت حاملًا لكلّ الشعارات الشمولية، وإن اليقين بسدادها لدى جموع كبيرة، والاستعداد للموت في سبيلها لا يكسبانها صفة السداد العلميّ.

إن صياغة خطاب ذي نزعة كلية محوره مفهوم الطبقة مثلًا يرتكب خطيئة التعميم المذكورة آنفًا؛ لأنه يصهر في بوتقة واحدة أفرادًا ذوي منظومات معرفية مختلفة، وتصورات ذهنية مختلفة، ويعبر التخوم بين الفرديّ والجماعيّ عبورًا يستغفل فيه ما تتطلبه قوانين الأنثروبولوجيا التي تمثل حرس الحدود بين الفرديّ والجماعيّ. وإن صياغة خطاب ذي نزعة كلية محوره القومية يفعل الشيء نفسه بصهر متنوعين في متّحد متخيّل.

ولا ينفع اشتراك مختلفين في أفعال معينة لتبرير هذا التعميم؛ من أجل بناء ذاكرة جمعية يُشتقّ منها خطاب ذو نزعة كلية؛ لأن الاشتراك في الأفعال لا يعني بالضرورة الاشتراك في تفسير واحد لمحتواها. وليست صياغة خطاب محوره الأمة الإسلامية أقل انغماسًا في خطيئة التعميم، وفي خطيئة أخرى هي الخلط بين التصورات الذهنية والتصورات العامة.

فالتصورات الذهنية التي تمثل الاعتقادات الدينية في هذه الحال أحد أهم مكوّناتها ليست هي التصورات العامة التي تتكون من نصوص ومنطوقات، ولا يتحول التصور الذهنيّ إلى تصور عام إلا بانتقاله من فرد إلى آخر، وهو انتقال عسير لا يحصل إلا في حدود ضيقة.

إن محاولات نسف الجهود العبقرية التي بُذلت لحفظ القرآن الكريم والسنة النبوية المتواترة -تحديدًا- ليست محاولات علمية في أحسن أحوالها، إن لم تكن مشبوهة في أسوئها.

إن الشك مشروع في الذاكرة الجمعية وموضوعاتها؛ بمجرد انفتاحها على آخرين يستطيعون أن يعبّروا عن المشترك بعبارة: يقال أو قيل؛ ولأن انكفاء الجماعة ذات الذاكرة الجمعية ليس حلًا بديلًا لحماية هذه الذاكرة، فإن الشكّ من حق كل شاك، سواء أكان من خارج هذه الجماعة، أم من أعضائها الذين يعبّرون التعبير نفسه في حديثهم عن الذاكرة واضعين مسافة بينهم وبينها. ولكن الشك المشروع هو الشك المنهجيّ القائم على أسس تجريبية، لا الشك العبثيّ غير المستند إلى أيّ أساس.

إن الشرط المحقق للتواتر بأن يكون مستنده الحسّ يمكّن من صوغ خطاب كليّ مبنيّ على أساس ذاكرة جمعية، تصلح لإحكام حلقات التواصل ودرء التشظّي، ولأنه خطاب، فلا خشية من تحويله المشترك إلى أقنوم قاتل لروح التجديد والمواكبة؛ لأن الخطاب لا يكون خطابًا ما لم يكن منطويًا على قابليات التأويل التي تفتح ما لا يتناهى من آفاق الإمكان.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق