وصف وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، مفاوضات فيينا حول سورية التي بدأت الخميس بأنها “الأمل الأخير” للتوصل إلى حل سياسي في سورية، حيث يستمر أوار العنف الذي أسفر عن مقتل مئات الآلاف من الأشخاص، منذ بدء النظام السوري حربه ضدّ الاحتجاجات في عام 2011.
لم يشرح لودريان قصده بعبارة “الأمل الأخير”، الأمل بماذا بالتحديد؟ ندرك جميعًا أن الأوضاع السورية وصلت إلى حال مرعبة من التردي. الصراع الأساس بين نظام طاغية فاجر وفاسد من جهة، وشعب ينشد التحرر والكرامة وخبز اليوم، قد تراجع إلى الصفوف الخلفية. تتقدم الآن صراعات أخرى: بين العرب والأكراد، بين الترك والأكراد، بين النظام وتركيا. وثمة صراعات من شكل آخر: بين الرجل ولقمة العيش، بين العائلة والمازوت، بين التلميذ والمدرسة. وخلال أشهر قليلة فقط، سوف يتمّ تجميع شظايا سورية في مناطق ثلاث كبيرة: الروس والإيرانيين في معظم الأراضي السورية، الأميركان والأكراد في شمال شرقي سورية، وتركيا في شمال غربها.
“الأمل الأخير” إذن لا معنى له؛ فالمفاوضات اليوم تدور حول أشياء من الماضي، حول معادلات قديمة، وحدود قديمة، وقوى قديمة وأطراف لم يعد لها وجود. فنظام دمشق قد تهاوى، ورئيسه انحدر إلى مستوى شيخ حارة بلا صلاحيات، ورغم كل الانتصارات التي حققها في الغوطة وإدلب ودير الزور، فهو يُدرك جيدًا أن كلمته في جنيف أو فيينا أو سوتشي لا معنى لها، وأن كلمة السر ستأتيه من مكان آخر غير قصر الشعب في دمشق. والمعارضة أيضًا تنحدر بشكل شاقولي، وهي فقدت منذ (الرياض 2) آخرَ ورقة كان يمكن أن تلعبها، وانتهت فعليًا إلى فزاعة طيور لا تخيف حتى العصافير الصغيرة. فمَن من السوريين يتفاوض إذن في فيينا؟ على الأرجح: لا أحد. وستُترك اللعبة للكبار، ولكن الكبار كلهم متعَبون، وليس لديهم الطاقة ولا الحكمة للدخول في مفاوضات مجزية.
الروس منهكون اقتصاديًا وعسكريًا. وستكون هذه السنة عصيبة على بوتين، لأنها سنة الانتخابات الرئاسية. لا يعني ذلك أن بوتين قد يخسر الانتخابات، فالكل يعلم في النهاية أن روسيا قد رجعت إلى الدولة البوليسية التي كانت عليها إبان الحكم السوفيتي. ولكن مع ذلك، ثمة مسببات للصداع ستأتي بوتين من قبل بعض المرشحين المنافسين. لقد استطاع بوتين الإطاحة بخصمه الأساس أليكسي نافالني، المقاتل العنيد ضد الفساد، حتى قبل الانتخابات، بسبب إدانته بالاحتيال في عام 2014، وهو ما عدّته المحكمة العليا لحقوق الإنسان في أوروبا تدبيرًا من نظامٍ قضائي يهيمن عليه بوتين. ويبقى وجع رأس جديد سيسببه له غريغوري يافلينسكي، وهو سياسي ليبرالي يهودي، بدأ الآن بالظهور كمنافس رئيس ضد فلاديمير بوتين. وسيتعين على الأخير تفريغ بعض الوقت والانتباه، للقضاء عليه.
الإيرانيون أيضًا ليسوا في أحسن أحوالهم، فالعقوبات ضدّهم لا تزال قائمة، والرئيس ترامب يريد إلغاء الاتفاق الذي أبرمه الرئيس السابق أوباما معهم بشأن الأسلحة النووية. ولا تزال انتفاضة كانون الأول/ ديسمبر مستمرة إلى اليوم، وإنْ بتفاوت في الدرجة والطريقة. والمؤسسات المالية تنهار بشكل متسارع، ولا يستطيع المودعون سحب ودائعهم هناك. ومؤخرًا انضم العمال إلى الطلبة والشباب والنساء في احتجاجات لا بدّ أن تجعل الحكومة في طهران منشغلة بالداخل أكثر من انشغالها بفيينا.
ليس وضع تركيا بأحسن حالًا على الإطلاق، فشعار “تصفير المشكلات مع الجيران” الذي رفعه وزير الخارجية التركي الأسبق أحمد داوود أوغلو قد انتهى، للأسف، إلى تصفير الأصدقاء. وباتت تركيا بلدًا تحفّ به المشكلات والرزايا من كل صوب. فالعلاقة مع الأميركيين بلغت حدًا مؤسفًا من التردّي، والليرة التركية تنخفض إلى مستويات قياسية منخفضة منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2017. وأغلقت البورصة الرئيسية للبلاد، نهاية الأسبوع الفائت، بانخفاض 2.17 في المئة عن الجلسة السابقة. وبلغ التضخم السنوي في تركيا 11.92 في المئة، في نهاية عام 2017.
وأخيرًا، تعاني الولايات المتحدة من مشكلات داخلية وخارجية كبيرة، وقد وصل الانقسام المجتمعي الأميركي إلى حد غير مسبوق، منذ الحرب الأهلية. وتلاحق الرئيسَ الأميركي دونالد ترامب التحقيقاتُ، بشأن احتمال تواطؤ بين حملته الانتخابية وروسيا خلال انتخابات 2016. وقد احتفل الرئيس ترامب بمرور سنة على تسلّمه منصبه بإغلاق الحكومة ثلاثة أيام، وهو خطر قابل للتجدد بعد أسبوع. كما تلاحق ترامب سلسلة لا تنتهي من الفضائح، كان آخرها الكشف عن أن محامي الرئيس ترامب دفع مالًا لنجمة الأفلام الإباحية (ستورمي دانيلز) لكي يسكتها عن البوح بعلاقةٍ سابقةٍ، بينها وبين ترامب.
ومن الطبيعي أن ينعكس هذا التداعي على حال الأمم المتحدة، وممثلها الخاص للصراع السوري: ستيفان دي ميستورا، الذي كان يحتاج إلى عكازة، فصار اليوم بحاجة إلى عكازتين.
هذه القوى ستجتمع بشكل غير مباشر في مفاوضات فيينا، وتُحرك المفاوضين السوريين كما تُحرَّك الدمى المتحركة. بيد أن حال وضع محرِّكي الدمى ليس أفضل من حال الدمى أنفسها. والخلاصة أن الأطراف السورية عاجزة عن التقدم خطوة واحدة في إيجاد حل حقيقي للسوريين، وحال الأطراف المؤثرة ليس أفضل، وهي لا تأتي إلى فيينا للبحث عن حلّ للسوريين، ولكن عن حلّ لنفسها. فلنخفض سقف أملنا إذن!