مقالات الرأي

مآلات الانتفاضة الإيرانية

 

لا تختلف الانتفاضة الإيرانية عن الانتفاضات الشعبية التي شهدتها عدة دول عربية منذ عام 2011، بل ربما تتطابق معها، حيث بدأت تعبيرًا عن استياء من أوضاع اقتصادية واجتماعية ضاغطة، ثم اكتسبت طابعًا سياسيًا بفعل تراكم الاستبداد الذي استمر لعقود قبلها.

لقد شكلت الانتفاضة أكبر تحدٍ للنظام الإيراني منذ عام 1979؛ إذ كشفت أزمة الشرعية التي يعاني منها هذا النظام، وأوضحت حجم الخلل في بنيته السياسية والاقتصادية، ما بين استحواذ الحرس الثوري وفئة رجال الدين على معظم الثروات، وما بين غالبية الشعب الإيراني الذي يعاني ويعيش نصفه في حزام الفقر، بينما تُعدُّ إيران ثاني أكبر منتج ومصدّر في العالم للغاز. فمن مدينة مشهد، ثاني أكبر مدن إيران، انطلقت في 28 كانون الأول/ ديسمبر الماضي أحدث موجات الانتفاضة، التي تُعدّ الأجرأ والأوسع انتشارًا والأكثر تجاوزًا للخطوط الحمر.

لقد اجتاحت التظاهرات أكثر من 40 مدينة، ورفع المتظاهرون لافتات تطالب بالحرية والحياة الكريمة ومواجهة الفقر. وتميزت عن سابقاتها، خصوصًا تلك التي شهدها صيف 2009، بأنها تمددت أفقيًا، حيث شملت مدنًا ومناطق بعيدة من المركز، وانطلقت من نواحٍ تُعدّ قواعد أساسية للنظام. لكنها كانت عفوية تنقصها القيادة، التي تجعل لها استراتيجية عامة تضمن لها الاستمرارية والتعبئة، لزيادة أعداد من ينزلون إلى الشارع.

وفي الواقع، من الصعب التكهّن بمآلات الحراك الشعبي الإيراني المستقبلية، غير أنّ المؤشرات التي تستوقف أكثر من غيرها في هذا الحراك هي: اتساع النطاق، وتعددية الشرائح المجتمعية والقوميات المشاركة فيه، وتجاوزه كل الخطوط الحمراء في قاموس النظام، وغلبة الطابع الشبابي، والمساهمة البارزة للمرأة. وما يُستشف من كل هذه المؤشرات هو أنّ الدعوات المطالبة بتغيير النظام قد بلغت مرحلة النضج نسبيًا، وأنّ تراكمات عقود من الهيمنة المطلقة على مفاصل الدولة والمجتمع في إيران من قبل نظام ثيوقراطي قد أفقدت النظام الإيراني عوامل جاذبيته الشعبوية.

وإذا كان من المبكر تصوّر مآلات ما حدث في مدن عديدة في إيران؛ فإنّ هذه الانتفاضة، في شكلها الممتد على مساحة واسعة، يمكنها أن تكون علامة جديدة في تاريخ إيران، ينتقم فيها أبناء الذين شاركوا في الثورة ضد الشاه وأحفادهم، في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، من أولئك الذين خطفوا الثورة، لتأخذ منحاها الإسلامي الطائفي في أبشع صوره، بعد أن كانت ثورة العلمانيين والإسلاميين معًا.

قد لا تكون هذه الثورة ثورة على النظام برمته، وقد تكون تطويرية أو تصحيحية، منعكسة بالتالي على الحيّز الجغرافي العاملة في إطاره. فتصدير الثورة في 1979 سيلحقه تصدير تصحيحها أو تطويرها. الأساس أنّ الإيرانيين لن يعودوا خطوة إلى الوراء، هناك أمرٌ ما قد كُسر، والعنف المضاد لن يؤدي سوى إلى تسريع عملية التغيير، وهو ما اعترف به الرئيس روحاني. وبانتسابهم لأجيال شابة، فهم لا يراهنون على عودة الماضي الذي يجهلونه، بل يتطلعون إلى المستقبل، إلى دولة طبيعية، يتم فيها الفصل بين السلطات، ولا تتمركز في أيدي عدد ضئيل من رجال الدين، يمزجون الدين بالسياسة وبنظام الحكم، ويعتبرون كل ممارساتهم السياسية معصومة من الخطأ والزلل، وفوق النقاش وخارجه.

من غير المعتقد أن تتعلم سلطة الولي الفقيه من درس التظاهرات الأخير، وأن تسعى إلى معالجة مسبباتها، وتعيد النظر في سياستها الخارجية، وتنسحب من مناطق الأزمات. إنها تكتفي بالتصرف على أساس أنّ ما حصل مجرد مؤامرة خارجية. ولكن من المؤكد أنّ إيران لا يمكن أن تتجاوز ما حدث، إذ سيكون للانتفاضة انعكاسات على مستوى قادة وصناع القرار (النخب الحاكمة)، ستظهر آراء تنادي بضرورة الانكفاء داخليًا لإدارة الأزمة، وآراء ستطالب بتخفيف الانهماك بالخارج، والالتفات إلى الداخل، ومعالجة أزماته، وتفكيك القنابل الموقوتة الكثيرة في البيت الإيراني. وستتصارع هذه الآراء، وتتفاعل فيما بينها، وبينها وبين الشارع، وسيكون لها أثرٌ على موازين القوى بين المحافظين والإصلاحيين، وقد يتشكل تيار ثالث في السلطة، يتجاوز طروحاتهما، فالحريق وصل إلى البيت الداخلي، ولم تعد مسارح سورية والعراق ولبنان واليمن ساحاته، وبالتالي، يجب أن تكون الترتيبات مختلفة.

والسؤال هل يستطيع روحاني، وهو ابن هذا النظام، أن يكسر هذا التحجّر في المنظومة العميقة التي نشأت بعد الثورة الإسلامية؟ هل يمكنه قيادة تغيير حقيقي في السياستين الداخلية والخارجية لبلاده، ليحقق بعض آمال الذين رأوا في الاتفاق النووي بدايةَ تحوّل الجمهورية من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة؟ هل يستطيع رفع القبضة الأمنية وفتح الباب أمام الحريات الفردية والعامة، وتوزيع الثروة على الجميع، وإتاحة المجال أمام القطاع الخاص بدل تغوّل الحرس الثوري على الاقتصاد والمؤسسات والمشاريع الكبرى؟ أم هل سيتم التضحية بحكومته لضمان بقاء النظام؟

إنّ جوهر الرسالة التي حملتها الانتفاضة الإيرانية هي ضرورة خضوع النظام للمحاسبة أمام شعبه، ولكنّ المرشد الأعلى خامنئي يراهن على شيء آخر، ذلك أنّ سلطته تعتمد على استمرار قوة الدولة الأمنية التي جعلها أيضًا مركز الجاذبية الاقتصادية للبلاد. وما دام هذا صحيحًا، فإنه لن يستطيع أو لن يقوم بمعالجة السبب الأصلي لانتفاضة الشعب الإيراني.

إنّ القبضة الأمنية تستطيع أن تضمن تأخير إسقاط النظام، ولكنها لا تستطيع أن تقتل إرادة شعب يسعى للحرية، فالقضاء على “الفتنة” لا يكون بإسكات الاحتجاجات الشعبية في الميادين العامة ومطالبها المحقة، ولا بحل المشكلات الاقتصادية فقط، ولا بتهديد الجيش بالتدخل أيضًا، وإنما بضرورة بناء دولة ديمقراطية تمثل الإرادة الشعبية المعاصرة.

لقد كسرت تظاهرات إيران قدسية النظام لدى الشعب، ولم تعد هناك محرّمات. وبالتالي، فإنّ الخروج في تظاهرات أوسع وأكبر لا تنادي بالإصلاحات الاقتصادية وحسب، وإنما بإسقاط النظام كله، لن تكون بعيدة. وهكذا، بات من المؤكد أنّ النظام الإيراني يعيش موسم الخريف، حتى وإن تأخر تساقط أوراقه، فقد دخل في دائرة مغلقة، الخروج منها يتطلب تنازلات سياسية في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

إغلاق